بقلم : فاطمة ناعوت
يندهشُ أصدقائى من دهشتى أمام أمور غير مُدهشةٍ، أو بالأحرى لم تعد مدهشةً من فرط تكرارها. لكنى أندهش من المدهشات مهما تكررت. بل أندهشَ من نفسى، إن مرَّ أمامى أمرٌ مُدهشٌ ولم أندهش، ربما بسبب ضغوط الحياة أو التعب، فأعود وأعتذرُ لما سمحتُ له أن يمرَّ دون دهشة. مثلا كلما نبتت زهرةٌ فى شرفتى، أقفُ أمامها مذهولة! من أين خرجت! ومرةً كنتُ متعبةً فلم أعبأ، ومرّ اليومُ كئيبًا، ثم تذكرتُ الزهرة فركضتُ إليها واعتذرتُ لها. أندهشُ كلَّ يومٍ من القمر يضىء وهو معتم، ومن قوس قزح يعبر السماء كسهم مارق لا يخلط ألوانه. وأعلم أن قارئى يدركُ أن الأمر بعيدٌ عن تحصيل العلم. فقد درستُ الأحياء والفيزياء والفلك، لكنه إكبارٌ لمعجزات يهديها اللهُ لنا كل يومٍ، حتى تمتلئ عيونُنا بالجمال.
الإنجليز يرون الدهشة ضد الأرستقراطية. «الأرستقراطى لا يبدى دهشتَه» وأنا، وفق هذا التعريف، أبعدُ الناس عن الأرستقراطية. أندهشُ لأمور لا تُدهش الأطفال. أندهشُ من القلم يخطَّ شيئًا؛ فيحوّل شيئًا غامضًا فى رأس الكاتب، اسمه «فكرة»، إلى رموزٍ، فيعثرُ شخصٌ آخر على الوعاء، المسمى «ورقة»، وينظر فى تلك الرموز، المسماة حروفًا، فيرى ما فى رأس الشخص الأول! معجزةٌ مدهشة عابرةٌ للزمان. فحين تفتح كتابًا وتقرأ مسرحية لـ«شكسبير»، فأنت تتلصّص على عقل رجل مات منذ خمسة قرون! نفس المعجزة التى تجعلكم ترون عقلى وأنتم تقرأون الجريدة الآن!.
لا أفقد الدهشةَ مهما تكرر حدوثُ المدهشات، ليس لتعطُّل التراكم المعرفى لديّ، بل تشبّثًا بخيط الفرح بالحياة. اِحسبْ كم سأفقدُ من بهجة لو توقفتُ عن الدهشة؟! مثلا شغّل المروحة فى ليلة حارّة، وتخيل نفسك خليفةً عباسيًّا تحيطُ بك الحسان «يُمروحن» عليك بريش النعام. تخيّلْ هذا، واندهشْ، وافرحْ.
ومثلما تُدهشنى معجزاتٌ مبهجةٌ مثل القلم والقمر والطمى الأسود ينشقُّ عن زهرة ملونة، أو دودة تتكور على نفسها داخل سجن الحرير، ثم تخرجُ فراشةً تطير...، توجعنى مُدهشةُ الإنسان الذى اعتمر الأرضَ ملايين السنين، ولم ينجح بعد فى الكفِّ عن القتل والكذب والظلم والسرقة والاغتصاب! كأن الزمانَ لا يمرُّ، ولم نتعلم أن الجمال وحده سيصلح العالم! كم مليون سنة يحتاج الإنسانُ ليغدو فاضلاً؟!.
أقولُ لأصدقائى الذين يسخرون منى إننى لو توقفتُ عن الدهشة من الجمال، سوف أعتاده فلا أفرح، وإذا توقفتُ عن الدهشة من قبح الخطايا، سوف تمرُّ دون رفض، ومَن يدرى ربما يأتى يومٌ وأرتكبُها.
الدهشةُ هى دليلى أننى أحيا وأتفاعل مع الوجود. تدهشنى ذبابةٌ ثابتة فى هواء كابينة قطار يجرى، لا تصطدم بالجدار!، تدهشنى النملةُ تسير فى خمس ثوان ما يوازى طول جسدها ألف مرة!، كأنما إنسان يمشى ميلا فى لحظات! ويجىء العلمُ، الذى أنفقتُ عمرى فى تحصيله، ليفسدَ جميعَ متعى. درسُ الكيمياء والفيزياء والأحياء يدمر دهشاتى. العلمُ يخبرنى أن القمر الجميل، محضُ كوكب صخرى مظلم يسرق من الشمس نورها فيضىء. تبًّا!.
الدهشةُ تعنى السؤالَ، والسؤالُ يجيب عنه العلم. وتبقى أمورٌ لم يحلّها العلم، ومن ثم توجّب اشتقاقُ لون جديد من العلوم الإنسانية هو الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة. يقول «كارل ياسبرز»: «كل إجابة تصبح سؤالا جديدًا». وتلك حكمةُ الله تعالى لكى يذكرنا أن العلم سيظلُّ قاصرًا ليبقى العالَمُ لغزًا مُحيّرًا، ونظل نندهش فنثبت أننا بشر. ولهذا يدعونا «إيدموند هوسرل» للرجوع إلى الذات والوعى النقى لتحطيم المعارف الجاهزة التى تعوّق مشارفة الحقيقة. فعلى الإنسان أن ينشئ فلسفةً خاصة، قائمة على حدوسه الشخصية.
من أجل ذلك رفض «فيثاغورس» أن يُدعى «حكيما» لأن الحكمة تعنى امتلاك الحقيقة. ومَن يمتلكُها؟ وفضّل عليها كلمة «فيلسوف»، وهو «محبُّ الحكمة»، لا مالكها. هذا التواضع المعرفى، والتوق الدائم إلى التعلّم، هو الذى سيولّد فيما بعد منزع الشك المنهجىّ الذى سيؤسسه «ديكارت» فى القرن السابع عشر. لذلك تبقى الأسئلةُ أهم من الإجابات. فدهشة نيوتن من سقوط التفاحة بدلا من طيرانها فى الجو بعدما تحرّرت من غصنها، خلق سؤالا. ثم نظرية. فهل كان «نيوتن» حين اندهش فيلسوفًا أم عالًما أم شاعرًا أم طفلا؟، إجابتى أنه إنسانٌ تحرّر من استعمار اليقين والمُسلّمات.
من هنا نفهم المنطق التوليدى للسؤال السقراطى الذى يبدأ بسؤال بسيط ثم يتدرج الحوار ليولّد أسئلةً إشكالية كبرى أحرجت رجال الدولة وحطمت اعتقادهم الدوجمائى بامتلاك اليقين، فقتلوا «سقراط» بالسمّ. جميلٌ أن نتحرر من الوثوقية والجاهزية والبداهة، ونستسلم للذة الدهشة. فلا شىء بديهيًّا فوق الأرض. كل شىء يصلح أن يكون محلّ سؤال ودهشة. حتى قبسة الهواء التى تدخل رئتى الآن لكى أحيا لدقيقة قادمة.