تأتي زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، في لحظة تعيش فيها المنطقة واحدة من أكثر مراحلها اضطراباً. فالحرب في غزة أعادت صياغة توازنات القوة، والنفوذ الإيراني يتراجع بعد الضربات المتتالية التي أصابت بنيته العسكرية والسياسية، بينما تدخل سوريا مرحلة جديدة مع صعود الرئيس أحمد الشرع، ويشهد لبنان تصدعاً في المعادلات التي حكمته طيلة عقود.
أما الولايات المتحدة، فتعود للانخراط المباشر في ملفات الشرق الأوسط، بعد رجوع دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في مقاربة تختلف عن سنوات التردد السابقة.
ضمن هذا المشهد، الزيارة أعادت تعريف العلاقة السعودية- الأميركية بما يتجاوز المعادلة التقليدية للنفط والأمن، وبلورت تفاهمات عميقة تتعلق بثلاثية الأمن والاقتصاد والاستقرار الإقليمي، في مقاربة استراتيجية تُعيد رسم خطوط النفوذ في الشرق الأوسط.
فالسعودية تتحرك اليوم بثقة أكبر، وتتقدم كفاعل أساسي في هندسة التوازنات الجديدة، مدفوعة برؤية سياسية واقتصادية تسعى إلى حماية مسار التحول الداخلي، وضمان بيئة استثمارية مستقرة في المنطقة.
في المقابل، واشنطن تحتاج إلى شريك قادر على إدارة التحولات من غزة إلى دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء.
في السياق، تبدو العلاقة بين الرياض وواشنطن أمام اختبار القدرة على صياغة معادلة أمان واستقرار، تتجاوز منطق التحالفات الكلاسيكية، وتستجيب لواقع إقليمي يشهد تفكك محاور وصعود ترتيبات أمنية جديدة.
جاءت نتائج الزيارة لتعكس حجم التقارب السياسي بين الطرفين، وأكثر من ذلك حجم الحاجة المتبادلة. فالإعلان الأميركي عن منح السعودية صفة «حليف رئيس من خارج (الناتو)» يشير إلى قرار استراتيجي بإعادة تثبيت الرياض ضمن منظومة الأمن الأميركي، وموافقة واشنطن على شراكة في الطاقة النووية المدنية بين البلدين، تُعد علامة تحول في العلاقات في هذا المجال. يبقى الأهم هو الموافقة على بيع مقاتلات «اف-35» للمملكة، في تطور ليس تفصيلاً عسكرياً؛ بل هو مؤشر على أن واشنطن قررت مواكبة توسّع حدود القوة السعودية في الإقليم، بما يمكِّن استعادة الاستقرار، ويُحيِّد نفوذ القوى المنافسة التي تراجعت قدراتها.
على المستوى الاقتصادي، ارتفع سقف الاستثمارات السعودية المتوقعة في الولايات المتحدة إلى حدود التريليون دولار، في سياق تعاون متسع يشمل الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة والطاقة النظيفة، وهو تحول يعكس انتقال الشراكة إلى مستوى أكثر تعقيداً من النموذج التقليدي السابق.
ورغم أن ملفات غزة وسوريا والسودان لم تُعلن بشأنها أي تفاصيل نهائية، فإن الخطاب المشترك دلَّ على تقارب: دعم المرحلة الانتقالية في غزة، وتنسيق أعمق في مسار إعادة دمج سوريا في الحاضنة العربية، والسعي لوقف فوري وشامل للقتال في السودان. والغائب الأكبر كان لبنان.
وهنا تبرز دلالات كشفتها الزيارة: لم يعد دور السعودية محصوراً في ملء الفراغ الذي خلَّفه تراجع النفوذ الإيراني في الإقليم فحسب؛ بل يتجاوز ذلك إلى سد الفراغ الاستراتيجي الناتج عن غياب رؤية سياسية لدى إسرائيل نفسها؛ خصوصاً بعد حرب غزة، وما أنتجته من عجز بنيوي في تحديد مسار اليوم التالي. فالمشهد الجديد يرسخ مكانة الرياض كقوة إقليمية تقدم تصوراً سياسياً للملفات التي عجزت تل أبيب عن بلورتها، ولا سيما فيما يتعلق بمآلات النزاع ومسار الدولة الفلسطينية. وبالتالي يمكن اعتبار الزيارة تصويباً لحصيلة المتغيرات في المنطقة بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحربي غزة ولبنان.
وبرزت سابقة، هي اعتراف إدارة يرأسها ترمب للمرة الأولى بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، والشروع بمسار لإقامة دولة فلسطينية، في تحول يصعب فصله عن ثقل السعودية وتأثيرها.
والأهم، أن الزيارة بدت وكأنها تكسر مقولة «المكانة الخاصة» التي احتكرتها إسرائيل لعقود داخل السياسة الأميركية، بعدما ظهَّرت واشنطن تحالفها مع الرياض وتوازناً ملحوظاً في مقاربتها للقضية الفلسطينية، وبدت أقل انحيازاً للثوابت التقليدية التي كانت تمنح إسرائيل امتيازاً لا يمس.
في المحصلة، رسَّخت الزيارة معادلة جديدة: لم تعد السعودية طرفاً يتلقى الضمانات؛ بل صارت شريكاً في صياغة مقاربة أمنية أوسع للمنطقة، ولم تعد الولايات المتحدة لاعباً منفرداً؛ بل قوة تبحث عن بناء منظومة توازن جديدة عبر شراكات انتقائية تقودها الرياض.
بتعبير آخر: العلاقة باتت تُبنى على حسابات تتجاوز اللحظة الراهنة، وترتبط بالتحولات التي تُعاد هندستها في المنطقة.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار الزيارة خطوة مهمة في مسار أوسع يعاد خلاله رسم دور السعودية في بنية الإقليم المقبلة، وتحديد حدود الدور الأميركي في منطقة لم تعد تشبه ما قبل حرب غزة وانهيار «محور الممانعة».
ما ستكشفه المرحلة المقبلة هو ما إذا كانت هذه الشراكة الجديدة ستتحول إلى رافعة لاستقرار مستدام، أم ستبقى إطاراً مرناً تُبنى عليه تفاهمات متدرجة مع اكتمال ملامح الشرق الأوسط الجديد.
هل تتكيف الحكومة الإسرائيلية مع الوقائع الجديدة وتكف عن التعطيل؟ الإجابة في واشنطن التي استثمرت موارد ضخمة في استقرار المنطقة، وهي اليوم، وللمرة الأولى، أمام فرصة حقيقية لتحقيق السلام، ستكون إضاعتها خسارة كبيرة.