بدايةً علينا الاتفاق على أن نهاية الحرب على غزة تعتبر خطوة إيجابية هامة، ويُشكر كل من يساهم في التوصل إليها ويشارك في وضع لبناتها، ونتمنى لها النجاح والانطلاقة الحقيقية لتضع الحرب أوزارها نهائياً. ولكن يبقى تفكيك شفرة موافقة حركة «حماس» على خطة ترمب العشرينية يتراوح بين الموافقة المطلقة والاختباء خلف تفسيرات مختلفة لبيانها بالموافقة، وهل كان هناك أكثر من صوت في رد «حماس» أم كان رداً مركزياً واحداً كما هو الحال في التراتبية الهرمية في قيادة الحركة؟
فهل كان رد وموافقة «حماس» بـ«كلمة لا بثوب نعم»، كما قال السفير الإسرائيلي السابق لدى أميركا مايكل هرتسون، وغيره الكثير ممن ذهب بالتفسير المتطرف إلى أن موافقة «حماس» هي مجرد تجنب للعاصفة ومراوغة سياسية وتقية «دينية».
من حق المفاوض الفلسطيني والعربي التخوف من مصداقية بنيامين نتنياهو، خاصة أنه من غدر بقيادة «حماس» وهي تتفاوض في الدوحة وقصف مقر اجتماعها في سابقة تثبت أن لا مكان للخطوط الحمراء ولا أمان له رغم اعتذار نتنياهو لاحقاً للدوحة بعد فشل الضربة الغادرة.
فالخطة تنص على الانسحاب التدريجي من قطاع غزة، بينما عادة الإسرائيليين تفتيت المراحل والانتقاص منها في أي تنفيذ لبنودها، وهذا محور التخوف الرئيسي، خاصة أن الضامن الأميركي متقلب في موقفه، وأن ترمب رفض أن يعطي ضماناً واضحاً بألّا تضم إسرائيل الضفة الغربية، خاصة في ظل وجود أصوات في حكومة نتنياهو تطالب بما تسميه أراضي توراتية تطلق عليها «يهودا والسامرة».
ولكن من باب الإنصاف لا يمكن الجزم بأن موافقة «حماس» هي من باب المراوغة السياسية، رغم أن بيان «حماس» كان يحتوي على العديد من الرسائل التي يمكن تأويل تفسيرها بأكثر من وجه بل بوجوه عديدة مختلفة، ولكن تبقى أولوية مصلحة «حماس» نفسها التخلص من حرب إبادتها وإنهاء وجودها الجذري في القطاع، كما يشير نص البيان الحمساوي.
الحقيقة أن رد «حماس» جاء تحت ظروف وضغط مجتمعي وإقناع عربي مستمر من الأطراف العربية المشاركة في إنهاء معاناة سكان غزة، وبالتالي لا يمكن وصفه بالمراوغة أو بمحاولة الهروب إلى الأمام، بل جاءت الموافقة نتيجة جهد عربي مشترك شاركت فيه الأطراف العربية للحفاظ على ثوابت القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، ومنها حل الدولتين وعدم تهجير سكان القطاع ووقف الحرب ووقف إبادة سكانه.
نتنياهو لم يكن يريد حلاً تحت ضغط المفاوضات والسلام بالسياسة، بل كان يريده تحت الضغط العسكري والإمعان في القتل والدمار، مستغلاً اليمين المتطرف في حكومته، ولكن الجهد العربي المشترك استطاع قلب الطاولة على نتنياهو وشركائه المتطرفين ومشروع طرد الفلسطينيين من قطاع غزة، فاستطاع الجهد العربي المشترك تقديم خطة مشتركة مع الأميركيين ومقترح ترمب الجديد الذي تخلى فيه عن شراء غزة وطرد الفلسطينيين.
من الطبيعي أن يكون هناك قلق من التفاصيل، وبخاصة أن الشيطان يكمن فيها، وإسرائيل عودتنا على إغراق أي مسألة تفاوضية في التفاصيل والفروع حتى تنتهي بالفشل بعد إغراقها في مستنقع هنري كيسنجر التفاوضي.
ولكن يبقى سؤال آخر، هل تغيرت خطة ترمب الذي كان يقول: «إن الفلسطينيين سيعيشون بأمان في مكان آخر غير غزة» ضمن مشروع تهجير الغزيين وإسكانهم الأردن ومصر وحتى ليبيا، فتهجير الفلسطينيين من أرضهم قبل أن يكون فكرة غير منطقية، مرتبط أيضاً بتاريخ أليم من عمليات تهجير سابقة لم يرجع أصحابها إلى اليوم.
نهاية أو إنهاء الحرب هي خطوة إيجابية في سماء المعاناة الفلسطينية في قطاع غزة، والتي أتمت عامين من الحرب والتهجير والقتل والدمار لشعب ذنبه أنه وقع ضحية لإبادة جيش إسرائيل المسمى جيش الدفاع وتعنت الحرس القديم من قادة «حماس» الذين أغلبهم ووروا في التراب.
بعيداً عن العنترية السياسية، تبقى الواقعية السياسية هي مفتاح الحل، وأن اليوم سكان غزة في أمس الحاجة للسلام ووقف الحرب بأي ثمن، فالسلام يبقى مكسباً رغم أي خسائر يمكن حصرها وتعويضها بمرور الزمن وتضميد الجراح.