بقلم : عبد اللطيف المناوي
عندما نظرتُ فى وجه على كوشيب وهو واقف فى قفص المحكمة فى لاهاى، ذلك الرجل الذى حملت كتفاه، وربما رقبته، مسؤولية تعذيب وقتل وحرق وتشريد آلاف البشر فى دارفور، تمنّيت أن أعرف ما الذى يدور داخله الآن. هل هو الندم.. هل هو ألم الشيخوخة حين تداهم الإنسان ذاكرته وجرائمه فى آن واحد.. أم هو مجرد ذلك الصمت الثقيل الذى يختبئ خلفه كثير من أمراء الحرب حين يسقط سلاحهم ويقفون أخيراً بلا جنود، ولا صحراء تحميهم؟!.
كان وجهه أشبه بمرآة متعبة؛ لا يخبرك بشىء، لكنه يقول كل شىء. هذا الرجل الذى كان يومًا رمزا للرعب والجريمة، ظهر فى المحكمة صغيرًا، هشًّا، محاطًا بسلطة القانون بعدما قضى عمره متكئًا على سلطة السلاح. وحين حكمت المحكمة الجنائية الدولية بسجنه عشرين عاما، لم يكن الحكم مجرد إدانة لشخص، بل لإحدى أكثر الصفحات قتامة فى تاريخ السودان الحديث.
فى دارفور، لم تكن الجرائم أرقاما، بل وجوها وقرى بأكملها اختفت. كان كوشيب أحد أبرز قادة ميليشيات الجنجويد التى اجتاحت الإقليم مطلع الألفية، تلك المجموعات التى مارس أفرادها القتل والحرق والاغتصاب بلا هوادة، بدعم وتسليح وتوجيه مباشر من نظام عمر البشير.
الجرائم التى أُدين بها فى لاهاى ليست سوى جزء من سجل طويل شملت قرى أُحرقت بمن فيها وعائلات أبيدت ونساء اغتُصبن وأطفال فُقدوا ومسيرات نزوح لا تنتهى، ما يجعل لحظة المحكمة استثنائية، ليس فقط الإدانة، بل الاعتراف الضمنى بأن العدالة قد تصل متأخرة، لكنها تصل.
حكاية كوشيب ليست تاريخا منقطع الصلة بالواقع. فالجنجويد التى كان أحد قادتها لم تختفِ، بل تحوّلت تدريجيا إلى كيان أكبر وأقوى وأكثر تنظيما هو قوات الدعم السريع. ففى ٢٠١٣، قررت الدولة السودانية «شرعنة» الجنجويد، منحتهم اسمًا جديدًا، زيًّا نظاميًّا، رواتب، شرعية قانونية، وموقعًا داخل الأجهزة الأمنية.. ولكن الحقيقة التى يدركها كل سودانى هى أن البنية البشرية واحدة، والعقيدة القتالية واحدة، والمنهج فى التعامل مع المدنيين لم يتغير. وأصبحت أداة حرب كبرى فى الخرطوم ودارفور من جديد منذ ٢٠٢٣، مع تكرار مشاهد القتل الجماعى والتهجير والانتهاكات، ولكن هذه المرة بقدرة نارية أكبر، وبدعم سياسى وعسكرى أوسع. لقد كان كوشيب النسخة الأولى من هذا النموذج، والدعم السريع نسخته الأكثر تعقيدا واتساعا.
المحاكمة رسالة لمن يظن أن السلاح يحمى إلى الأبد، مشهد المحكمة كان فى جوهره، اختبارا أخلاقيا لمن يخوضون الحرب اليوم داخل السودان.
لقد عاش كوشيب سنوات طويلة محصنا بالسلاح وبالسلطة التى وفّرها له النظام. وأعتقد، مثل كثيرين، أن أحدًا لن يمسّه.. لكن الطريق الطويل انتهى به أخيرا فى قبضة العدالة الدولية.
الرسالة ليست للماضى، بل للحاضر، كما سنرى.