بقلم : خالد منتصر
تعتبر مذكرات رجال الأعمال وسيرهم الذاتية وقصص نجاحهم من الأعمال الجذابة والملهمة للقراء، لكن المذكرات التى سأكتب عنها اليوم ليست جذابة وملهمة فقط، لكنها أيضا مختلفة، فأغلب المذكرات، خاصة مذكرات رجال الأعمال الأمريكيين، تتحدث عن لحظة النجاح المهنى باستفاضة، وكيف بدأت الطفرة المالية، وأرقام المكسب والخسارة، والتعامل مع الحياة على أنها مضاربات بورصة، لكن صاحب تلك المذكرات يقدم، بالإضافة إلى ذلك، أو بالأصح قبل ذلك، دراما شبيهة بالدراما الإغريقية، فسيرة حياة رجل الأعمال المصرى «محمد لطفى منصور»،
الصادرة عن دار جرير باسم «مسيرتى»، هى قصة شبيهة بأسطورة ودراما «سيزيف»، هذا الذى يصعد إلى الجبل ليدفع الصخرة إلى القمة، فإذا بها تنزل وتتدحرج إلى السفح، فيبدأ المسيرة من جديد، ويعيد الكرة بنفس الدأب والإصرار، لكن الفرق بين سيزيف ومحمد منصور أن الثانى قد وصل إلى قمة الجبل، وواصل رحلة الصعود، ونجح فى تحريك الصخرة، واتسعت شركاته خارج المحيط المصرى، من أوغندا وغانا، إلى الصين وسيبيريا، وحصل على لقب سير، وتم منحه الدكتوراه الفخرية من كبرى جامعات أمريكا، لكن هل مسار تلك الرحلة كان نجاحا ومكاسب فقط، أم أنها كانت مشحونة بالإخفاقات والعثرات والعراقيل؟، هى رحلة كما فيها من فرحة وبهجة النجاح، فيها دراما وألم ودموع، الأب هذا الرجل المثقف خريج كامبريدج، خبير القطن العالمى، والذى تتهافت الشركات على الاستفادة من خبراته ونصائحه، تؤمم شركته التى كانت أنجح شركة فى مصر، وتصادر أراضيه، ويمنع من السفر، ويتعطفون عليه فيمنحونه راتبا قدره ٧٥ جنيها، لكنه ينهض من جديد، ويواصل الرحلة من الصفر، ويؤسس شركة لتصدير القطن فى السودان، بعد طلب الرئيس نميرى من عبدالناصر شخصيا، ثم يحدث الانقلاب الاشتراكى هناك،
فيتم التأميم للمرة الثانية، ويعود الأب لطفى منصور للصفر من جديد، لكنه لا ييأس، ويظل دافعا الصخرة إلى القمة، ويعود إلى مصر ليبدأ من جديد فى عصر السادات، وينصح أولاده بتنويع النشاط، والدخول فى سوق السيارات، والحصول على توكيل أشهر السيارات الأمريكية، أما الابن صاحب المذكرات، فالدراما الإنسانية فيها شحنة شجن أعمق، لأنها تتعلق بمواجهة وحش المرض، طفل لم يتجاوز العاشرة، يتعرض لحادث سيارة، يجعله غير قادر حتى على الوقوف، وكان القرار هو بتر الساق إنقاذا لحياته، الطفل محمد لطفى منصور الرياضى السباح بطل ونجم فيكتوريا كولدج الملىء بالحيوية يبكى مستعطفا الأب والطبيب، ألا تبتر ساقه، وينجح الجراح فى الاحتفاظ بساقه سليمة، لكن الثمن هو بقاؤه فى زنزانة السرير، لمدة ثلاث سنوات بلا حراك، بنفس جينات الإرادة والعزيمة والإصرار، يقف على قدميه، ويواصل، ويذهب لأمريكا شابا مقبلا على الحياة، فى أصعب فترة تاريخية من تاريخ أكبر بلد رأسمالى فى العالم، وكانت البداية اغتيال كينيدى، لكن هناك رصاصة أخرى كانت على وشك اغتيال أحلام هذا الشاب الحالم، فى سن العشرين، أنذرته نقطة دم فى البول، بأن هناك شبح سرطان ينتظره ويحكم عليه جدران الزنزانة مرة أخرى، وتأكد التشخيص، وكان بالفعل سرطان الكلى، أجريت الجراحة، وتمت إزالة الورم، وإنقاذ الشاب، ليقوم من جديد، دافعا الصخرة إلى القمة، يدرس هندسة الطيران، ثم يتركها لهندسة النسيج، ثم يحصل على ماجستير إدارة الأعمال، محطات تمهد الطريق لصعود صاروخى، لكن فى تلك الفترة أرسل له الأب خطابا يبلغه فيه بأنه لن يستطيع إرسال المصاريف، وعليه أن يستكمل طريقه، ويتحمل مسؤولية نفقاته، بدأ بغسل الأطباق فى مطعم، وظل يواصل حتى أصبح رئيس الجرسونات، وظلت تلك الفترة كالوشم فى ذاكرته، تومض فى العقل، أن تنجح، يعنى أن تتعب وتتعثر وتقوم من جديد، وكما قال له الأب «إذا كانوا قد أمموا أملاكنا، فإنهم لن يستطيعوا تأميم عقولنا»، وهنا بدأ فصل بيزنس العائلة المترابطة المحبة لبعضها البعض، فى الكتاب قصة نجاح مبهرة لبيزنس العائلة، بسبب الحب، والإيمان بأن الغد حتما سيحمل لهم الخير، رحل الأب جسدا، لكنه ترك جينات التحدى والذكاء، بداخل الابن،
الذى واصل المسيرة من القطن والنسيج، مرورا بتوكيل سيارة ثم اثنين ثم أربعة، وصولا إلى شركة استثمارات فى لندن، مرورا بأكاديمية تدريب كرة قدم فى غانا، وشركات بناء عقارى، وأوناش وحفر، وفى ظل كل هذا إنشاء مؤسسات خيرية، ودعم مؤسسات صحية، وتشجيع سيدات فى ريادة الأعمال وتوفير سبل العيش، كانت محطة الوزارة هى أيضا مشحونة بالدراما، التى انتهت باستقالة بطل العرض، وتركه لكرسى الوزير فى سابقة متفردة، ليثبت أن الصدق مع النفس هو عنوان تلك المسيرة.
كتاب «مسيرتى» من الكتب التى لابد أن يقرأها الشباب، لاستلهام فكرة الجهد مع العطاء، فلابد، وأنت فى ظل معركة الصعود إلى القمة، أن تنظر إلى ساكنى السفح، أن تصغى إلى أنينهم، وتكون على يقين أن صعود القمة لا يكون على جثث الآخرين، لكنه بخيوط أمانيهم الذهبية التى تمنحك البهاء والثقة والإيمان والاطمئنان.