من روائع أبي الطيب 41

من روائع أبي الطيب (41)

من روائع أبي الطيب (41)

 العرب اليوم -

من روائع أبي الطيب 41

بقلم - تركي الدخيل

بَيَّنَّا في الحَلْقَةِ الماضِيةِ أَنَّ مِن مَزَايَا شِعرِ أَبِي الطَّيِّبِ؛ إِرسَال المَثَلِ في أَنصافِ الأبياتِ. ونُواصِلُ في هذه الحَلْقَةِ استِعرَاضَ بَعْضِ أَعْجَازِ أَبياتِ المُتَنَبِّي، الَّتِي ذَهَبَتْ أَمثالاً سَائِرَةً.

(119) إِنَّ القَلِيلَ مِنَ الحَبِيبِ كَثِيرُ
القَلِيلُ مِنَ الحَبِيبِ كَثِيرٌ، فَالحُبُّ يَزِيدُ القَلِيلَ حَتَّى يَجْعَلَهُ كَثِيراً.
ولأبي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، أيضاً، قولُهُ:
وجُودَكَ بالمُقامِ ولَو قَليلاً * فَما فِيمَا تَجُودُ بهِ قَليلُ
فَما كَانَ مِنكَ، وَإِنْ قَلَّ، فَهُوَ كَثِيرٌ، إِذْ لَا يُوجَدُ فِي جُودِكَ قَلِيلٌ أَصْلاً!
وَالْفِكْرَةُ مُتَكَرِّرَةٌ عِندَ الشُّعَرَاءِ...

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الطَّثْرِيَّةِ:
وَليسَ قَلِيلاً نَظْرَةٌ إنْ نظَرْتُها * إلَيكِ وقُلٌّ مِنْكِ ليسَ قَلِيلُ
وقَوْلُ إِسْحَاقَ المَوْصِلِيِّ:
إنَّ مَا قَلَّ مِنكَ يكْثُرُ عِنْدِي * وكَثِيرٌ مِمَّنْ تُحِبُّ القَلِيلُ
وقد أَكَّدَ المَوْصِلِيُّ ما ذَكَرْنَاهُ آنِفاً، مِن أَنَّ الحُبَّ يُكَثِّرُ القَلِيلَ.
ومِثْلُهُ قَوْلُ أَشْجَعَ السُّلَمِيِّ:
وُقُـوفــاً بـالـمَـطِــيِّ وَلَـوْ قَـلـِيــلاً * وَهـلْ فِـيـمـا تَـجُـودُ بِـهِ قَـلـِيــلُ
عسَى يُطْفِي الودَاعُ غَليلَ شوقٍ * وهل يُـطْـفَـى مِن الشَّوقِ الغليلُ
وتَسَاؤُلُ أَشْجَعَ فِي بَيْتِهِ الأَوَّلِ، مِن بَابِ السُّؤَالِ مَعْلُومِ الإِجَابَةِ، فَسُؤَالُهُ: (وَهَلْ فِيمَا تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ؟) إِجَابَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَإِنْ لَمْ تُلْفَظْ، فَلَا قَلِيلَ فِيمَا تَجُودُ بِهِ.


(120) وبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشْيَاءُ
لَا يُظْهِرُ الأَشْيَاءَ عَلَى صُورَتِهَا الحَقِيقِيَّةِ إِلَّا أَضْدَادُهَا.
وهذا ما جَلَّاهُ عَجْزُ أَبي الطَّيِّبِ، المَذْكُورُ، الَّذِي صَارَ مَثَلاً سَائِراً مُنْتَشِراً، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ
ونَحْوُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ، قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ المَنْبِجِيِّ، فِي «اليَتِيمَةِ»:
ضِدَّانِ لَمَّا اسْتَجْمَعَا حَسُنَا * وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ
وَهُوَ لَيْسَ مِثْلَ عَجْزِ أَبِي الطَّيِّبِ، لِمَا شَرَحَهُ شَيْخُ العَرَبِيَّةِ ابْنُ جِنِّي، بِقَوْلِهِ:
«وَهَذَا بَيْتٌ مَدْخُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ضِدَّيْنِ اجْتَمَعَا حَسُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الحَسَنَ إِذَا قُرِنَ بِالقَبِيحِ، بَانَ حُسْنُ الحَسَنِ وَقُبْحُ القَبِيحِ، وَلَمْ يَحْسُنَا جَمِيعاً؟ وَبَيْتُ المُتَنَبِّي أَسْلَمُ؛ لِأَنَّ الأَشْيَاءَ بِأَضْدَادِهَا يَصِحُّ أَمْرُهَا، وَتُسْفِرُ لِمُتَأَمِّلِهَا، حَسَنَةً ظَهَرَتْ أَمْ قَبِيحَةً».
وصَدَقَ ابْنُ جِنِّي، وَأَحْسَنَ قَوْلاً وَشَرْحاً، فَاجْتِمَاعُ الأَضْدَادِ لَا يَعْنِي حُسْنَ الضِّدَّيْنِ بِالضَّرُورَةِ، لَكِنْ اجْتِمَاعُهُمَا يُبَيِّنُ صِفَاتِ كُلٍّ مِنهُمَا، وَهُوَ مَا جَاءَ عِندَ المُتَنَبِّي، بِقَوْلِهِ:
(وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ) ...
وَلَيْسَ صَحِيحاً مَا جَاءَ عِندَ المَنْبِجِيِّ، بِقَوْلِهِ: 
(وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ) ...

وكَمَا أَنَّ الأَشْيَاءَ تَتَبَيَّنُ بِضِدِّهَا، فَإِنَّ الأَشْيَاءَ تَتَبَايَنُ بِضِدِّهَا أَيْضاً.
فَـ«تَتَبَيَّنُ» بِظُهُورِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَ«تَتَبَايَنُ» بِاخْتِلَافِهَا عَنْ غَيْرِهَا بِشَكْلٍ بَيِّنٍ جَلِيٍّ.

(121) والمُسْتَغَِرُّ بِمَا لَدَيهِ الأَحْمَقُ
الأَحْمَقُ: الجَاهِلُ. وَالمُسْتَغِرُّ: المُغْتَرُّ، أو المَغْرُورُ.
ورُوِيَ: المُستَغَرُّ (بفتح الغين)، وَهُوَ الَّذِي دُفِعَ إِلَى الغُرُورِ، وَزُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ.
كما رُوِيَ: المُستَعِزُّ، وَهُوَ مَنِ اسْتَعَزَّ بِمَا لَدَيْهِ مِن مَالٍ أَو جَاهٍ.
والمعنى – باللفظة الأولى –: أَنَّ المُغْتَرَّ بِمَا لَدَيْهِ مِن الدُّنْيَا، وَمَا حَصَّلَ فِيهَا، هُوَ الأَحْمَقُ.
وباللفظة الثانية: مَن زُيِّنَ لَهُ الغُرُورُ، فَاغْتَرَّ بِمَا عِندَهُ مِن حُطَامِ الدُّنْيَا، فَهُوَ الأَحْمَقُ.
وبالثالثة: مَنِ اسْتَعَزَّ بِهَذِهِ المُتَعِ الزَّائِلَةِ، وَظَنَّ أَنَّها سَتُعِزُّهُ، فَهُوَ الأَحْمَقُ.
وبالجملة: مَنِ اغْتَرَّ أَوِ اعْتَزَّ بِالدُّنْيَا وَبُهْرُجِهَا وَحُطَامِهَا، فَهُوَ الأَحْمَقُ.
أَمَّا العَاقِلُ، فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، لِيَقِينِهِ أَنَّ كُلَّ مَا لَدَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا زَائِلٌ ذَاهِبٌ، وَأَنَّ المَوْتَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، نَازِلٌ بِالخَلْقِ كُلهم.
وقد بَيَّنَ المُتَنَبِّي هذا المَعْنَى بِجَلَاءٍ، فِي بَيْتِهِ القَائِلِ:
نَبْكِي على الدُّنْيَا ومَا مِن مَعْشَرٍ * جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَرَّقُوا
وَفِي بَيْتِهِ القَائِلِ:
وقَد فارَقَ النَّاسُ الأَحِبَّةَ قَبلَنا * وأَعيَا دَواءُ المَوتِ كُلَّ طَبيبِ
فَمَا أَكْثَرَ ما يَغْتَرُّ بِهِ النَّاسُ، وَما أَقَلَّ ما يَبْقَى لَهُم! 
عَلَّمَنَا أَبو الطَّيِّبِ أَنَّ القَلِيلَ مِنَ الحَبِيبِ، إِنْ كَانَ صَادِقاً، أَغْلَى مِنْ كَثِيرٍ يَجِيءُ مُتَكَلَّفاً، وَأَنَّ الأَشْيَاءَ لَا تُدْرَكُ حَقَائِقُهَا إِلَّا بِنَقَائِضِهَا، وَأَنَّ مَنْ اسْتَغْنَى بِمَا فِي يَدِهِ، وَظَنَّ الدُّنْيَا عِزّاً، فَقَدْ خُدِعَ. 
أَيُغْنِي مَتَاعٌ لَا يُرَافِقُ إِلَى القَبْرِ؟! 
وَهَلْ يَعْصِمُ عَنِ الفَنَاءِ جَاهٌ أَوْ مَالٌ؟! 
الدُّنْيَا تُرِينَا كَثِيراً، لِنَعْرِفَ أَنَّ القَلِيلَ أَثْمَنُ، وَتَجْمَعُنَا لِنُدْرِكَ أَنَّهَا مَا جَمَعَتْ أَحَداً إِلَّا فَرَّقَتْهُ.

arabstoday

GMT 10:51 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المسلمان

GMT 10:48 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

من موجة ترمب إلى موجة ممداني

GMT 10:47 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة الحرب... تكنولوجيا أوكرانية مقابل أسلحة أميركية

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 10:37 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المتحف المصري الكبير

GMT 10:36 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

«تسونامي» اسمُه ممداني

GMT 10:33 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السودان... حكاية الذَّهب والحرب والمعاناة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من روائع أبي الطيب 41 من روائع أبي الطيب 41



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 04:38 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يتسلم جثة رهينة جديد من قطاع غزة
 العرب اليوم - الجيش الإسرائيلي يتسلم جثة رهينة جديد من قطاع غزة

GMT 01:53 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

فيديو قديم مع دينا الشربيني يثير ضجة وروبي تعلق بغضب
 العرب اليوم - فيديو قديم مع دينا الشربيني يثير ضجة وروبي تعلق بغضب

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 09:06 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عمرو دياب يوقف حفله في دبي بسبب نيللي كريم وأحمد السقا

GMT 15:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

يامال يرفض المقارنات بميسي ويركز على تحسين أداء الفريق

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 20:43 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تنفق ملايين الدولارات لتحسين صورتها في أميركا

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 05:50 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab