بقلم : عبد المنعم سعيد
اللحظة ملحة لمزيد من العلم والمعرفة بإسرائيل بعد عامين من حرب غزة الخامسة التي مزجت ما بين الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والصراع العربي - الإسرائيلي والصراع الإقليمي - الإسرائيلي بدخول إيران إلى دائرة الحرب. ولما كان وقف إطلاق النار قد يكون مقدمة لعملية تسوية أو سلام، أو حتى استمرار الحرب تحت شعارات وأقنعة مختلفة، فإن دراسة وفهم إسرائيل سوف يكونان في غاية الأهمية لمن يراها عدواً أو خصماً أو منافساً. إسرائيل لم تبخل أبداً عن إعلان علاقاتها الإقليمية حرباً أو سلاماً أو ما بين هذا وذاك؛ هي تتأرجح ما بين واقعها الحالي وهو يمتد مع الاستيطان، وبين أن تحقق حلمها في «إسرائيل الكبرى» أو أقل من ذلك «إعادة تشكيل الشرق الأوسط». وفي العموم، فإن دراسة إسرائيل، مجتمعاً ودولة، كانت ذائعة عربياً في الفترات التي تلت الحروب الكبرى، ولكنها خفتت بعد توقيع معاهدات السلام والتطبيع. الآن، فإن إصدار كرسي الأستاذ الدكتور إبراهيم المهنا في معية جامعة الملك سعود في الرياض «التقرير الاستراتيجي الشهري» ورصده توجهات وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الإسرائيلية جاء في وقته تماماً.المسألة هي على الوجه التالي: إن إسرائيل كدولة لها تعبيراتها الجيو- سياسية والجيو- اقتصادية والجيو- استراتيجية (علاقاتها وتحالفاتها في الإقليم وخارجه) لها أهمية بالغة، بخاصة بعد أن أعلنت صراحة عن أحلامها وطموحاتها أو نواياها كما سبق ذكره. وأما وقد أعلنا تأييدنا حل الدولتين، فإن البحث والدراسة لا يقتصران على الدولة الفلسطينية فقط؛ وإنما الأهم لا بد من دراسة وفهم ومعرفة الدولة الإسرائيلية. وللأسف، فإنه كان هناك في وقت من الأوقات وفي أعقاب كارثة يونيو (حزيران) 1967 والهزيمة لثلاث دول عربية مراكز عدة للبحوث والدراسات العربية عن إسرائيل، بخاصة في بيروت والقاهرة وأحياناً بغداد؛ والآن اكتفت كل العواصم بلعنة إسرائيل وهو وصف تستحقه، ولكن في الوقت نفسه فإن الخطر علينا يستحق اهتماماً يقوم على البحث والمعرفة واستنفار عناصر القوة وفي مقدمتها العلم. والحقيقة الواقعية هي أن الاهتمام بإسرائيل الداخل تراجع كثيراً إلى أقسام اللغة العبرية في كليات الآداب المصرية والعربية أحياناً. مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الذي كان اسمه «مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية» 1968 - 1972، ثم بعد ذلك بات مركزاً للدراسات السياسية والاستراتيجية، توقف تقريباً عن الاهتمام الذي بات لا يزيد على متابعة الحروب الإسرائيلية والتغيرات السياسية في «التقرير الاستراتيجي العربي»، وفي الطريق جرى إلغاء مطبوعة «مختارات إسرائيلية» التي كانت تقوم على ترجمة الصحف العبرية.
صدور التقرير الآن في غاية الأهمية، ليس فقط لأنه سد للفجوة المعرفية؛ وإنما لأن الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل تغيرت بدرجة ما بدلاً من التركيز على جيرانها العرب المباشرين، وفي المقدمة بالطبع الفلسطينيون، وإنما تاريخياً كانت مصر وسوريا ولبنان وإلى حد ما العراق هي الهدف، فإن الواقع الآن هو أن الأولوية الإسرائيلية باتت لمحاولة التوصل إلى اتفاقات سلام مع دول الخليج. «التقرير الاستراتيجي الشهري» يتميز بالشمول للآفاق الإسرائيلية كافة استراتيجياً وإعلامياً واقتصادياً واتجاهات الرأي العام إلى آخر أبعاد المعرفة العبرية. ما ينقص ذلك لاستكمال الصورة معرفة الفارق ما بين الواقع في إسرائيل والصورة في الذهن العربي كما يعبّر عنه حديث القادة؛ وينعكس في الإعلام العربي ويحوطه الكثير من الخرافات والشعوذة والقليل من الفكر الذي نادراً ما يكون عِلماً. «التقرير» هكذا يكون مفيداً لطالبي المعرفة والإعلام، ولكنه بعد تراكم الإصدار عبر الشهور سوف يكون خالياً من تقديرات المعلومات بعد أن تصير اتجاهات ومسارات تهديد للمصالح، وبعيداً عن الفرص السانحة. «التقرير» فيه قدر من التحليل، والنظرة التقديرية (متقدم جداً، متوسط التقدم، التقدم)، ولكن التطور الزمني بالمعلومات سوف يفضي بأسرار كثيرة تحتاج إلى فريق بحثي أوسع مما هو متاح في التقرير الأول.
إن صدور تقرير شهري في 182 صفحة يخرج عن تقاليد «التقرير» ويندمج في تقاليد «الكتب» التي قراؤها لا يتميزون بالصبر الكافي للتعامل الشهري، ومنتجوها يعانون الإرهاق بعد صدور التقرير الأول. المؤكد هو أن «التقرير» يليق بكرسي صاحبه إبراهيم المهنا، ولكن التفكير لا بد أن يأخذنا إلى سنوات عشر من الآن؛ والمستقبل جزء مهم من «التقرير»، ولكن إنتاجه يحتاج إلى مركز للدراسات المتخصصة في الشأن الإسرائيلي. «التقرير» هكذا يستوفي كل ما يُطلَب من «العدد الأول»، ولكن الخطر كبير، والمهمة الثقيلة هي أهم ما تحتاج إليه أوطاننا في هذه المرحلة: المعرفة. القصة سوف تظل مستمرة ومحورية، فإما تندمج إسرائيل في الإقليم أو أنها سوف تظل ساعية إلى إمبراطورية غارقة في الدماء والإبادة الجماعية.