بقلم : عبد المنعم سعيد
افتتاحية التاريخ المصرى جاءت من أسطورة «إيزيس وأوزيريس» عندما تدفقت دموع إيزيس لكى تبدأ انبثاق النهر الذى بات الأم الرؤوم والأب الحنون للحضارة المصرية التى كان زمنها ما قبل الأسرات القديمة التى بنت الأهرامات ثم الأسرات الوسطى التى ازدهرت عندها الحضارة ووصلت إلى أعلى مراتبها. وكما هى العادة فى الزمن فإن الازدهار يعطى القدرة على صد الأعادى؛ بقدر ما يغرى بالطمع قوى خارجية، وغير ذلك كانت الطبيعة تعطى خيرها ومن آن لآخر تعطى لعنتها فى شكل الجفاف والفيضان. ثلاثة آلاف عام من الفراعنة إلى البطالمة انتهت إلى ثلاثة آلاف عام أخرى من التراجع لم يقطعها إلا الوالى محمد على الذى بدأ مصر الحديثة بما فعله السابقون، وفيما بعد اللاحقون، بمشروعات عملاقة لتطويع النهر بالقنوات والخزانات والسدود. مصر المعاصرة لم تخرج عن هذا القانون التاريخى فكان مشروع السد العالى هو عنوان الفترة الناصرية؛ أما الفترة الساداتية فعنوانها «السلام» الذى لا تقوم حضارة بدونه؛ وعندما أتى الرئيس مبارك فإنه وضع الأساس لمشروع «توشكى»؛ وفى كل الفترات كان المصريون يكثرون وتزداد مطالبهم ويثورون. فى أعقاب ثورتهم الأخيرة التى لقبت بـ «الربيع العربى» وبدأت بالشباب واستولى عليها الإخوان ثم استقرت عند العودة إلى التقاليد المصرية الأصيلة اعتبارا من 30 يونيو 2013.
العصر المصرى الجديد - 2013 إلى 2025 - لم يخرج على القاعدة العامة، وهذه المرة حاملا أحلاما قديمة، فكانت البداية أن يكون لمصر «قناة سويس» إضافية تخلق ازدواجا للممر الدولى العالمى وبعدها انطلقت أكبر شبكة للبنية الأساسية عرفتها مصر فى تاريخها الحديث فضاعفت من مساحة المعمور فيها بالطرق والكبارى والأنفاق والمدن الجديد وشبكات الاتصال والمواصلات وفوق ذلك كله سعت إلى تحقيق ما يحلم به المصريون دائما وهو خلق نهر نيل جديد مواز للنهر الخالد كما أوصى د. فاروق الباز. انتقل المصريون من النهر إلى البحار والخلجان المحيطة بالمحروسة وترتبط بقدس أقداسها فى سيناء وارتبط السد العالى بمفيض توشكى ثم بحيراتها حتى وصلت إلى «الدلتا الجديدة». القصة لم تكن خالية من المصاعب، فالبداية بالتمرد والنهاية بالوباء وما بينهما الحرب ضد الإرهاب ومع ذلك فإنه مع العام الحالى 2025 بدأت ثمار كل ما كان فى الظهور. المدهش أن «الاقتصاديين» المصريين غمرهم القلق طوال الوقت، وكان الشعار هو«فقه» الأولويات، وذهب بعيدا فقه الابتكار والإبداع الذى يضيف إلى المسيرة ولا يخسر منها ويضع المسيرة المصرية فى الإطار الذى تستحقه مصر. لم يطرح الاقتصاديون أفكارا لإشغال المدن المصرية؛ أو كيف سيكون الاستثمار فى النهر الخالد الجديد. استقبال الأخبار الجديدة المبشرة بأن عشر سنوات لم تضع سدى كان باردا بالقول إن المؤشرات جيدة ولكن المرض باق(!)؛ أو أن ما يبدو رشيدا لا يحقق الرشد؛ لم تحدث تلك المقارنة المطلوبة التى تأخذ من التجارب العالمية ما يضيف ولا يخصم من السردية المصرية.