بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
عندما نتأمل التطور الذى حدث فى الظاهرة الشعبوية فى أوروبا نلاحظ تغيرًا كبيرًا فيها. وهذا طبيعى لاختلاف الظروف التى تحيط الشعبوية الراهنة عن تلك التى أحاطت سابقاتها. وتمثل حالة فرنسا مختبرًا جيدًا لهذا التغير. لا يشبه حزب التجمع الوطنى الذى يعبر عن الشعبوية اليمينية الآن الحركة البولانجية فى آخر القرن التاسع عشر. ولا نجد سوى قليل من القواسم المشتركة بين مارين لوبان زعيمة الشعبوية اليمينية الراهنة وجورج بولانجيه زعيم الشعبوية الشاملة التى جمعت شرائح يمينية وأخرى يسارية. وربما يكون الجامع الأساسى بين الشعبوية فى مرحلتين يفصلهما نحو قرن ونصف القرن، هو حشد الساخطين على أداء النظام السياسي. ولكن الفرق الذى لا يمكن إغفاله هو أن الشعبوية البولانجية حشدت ساخطين اختلفت خلفياتهم وانتماءاتهم، بخلاف شعبوية لوبان التى تعبر عن الساخطين اليمينيين، فيما يحظى حزب فرنسا الأبية وزعيمه ميلانشون بدعم الساخطين فى أوساط اليسار. ولكن الفرق الكبير والأساسى بين شعبوية لوبان وشعبوية بولانجيه هو الموقف تجاه النظام السياسي. كان بولانجيه وأنصاره ضد نظام الجمهورية الثالثة بالمطلق، ودعوا إلى تغيير جذرى فيه، ونادوا بما سموها ديمقراطية الاستفتاء العام بدلاً من الديمقراطية البرلمانية التى قام عليها ذلك النظام. كما اتخذ بولانجيه موقفًا حادًا ضد الأحزاب السياسية بدعوى أنها تقسم الأمة وتفتت المجتمع، وتتسبب فى فشل الحكومات الائتلافية التى ما إن تُشكل الواحدة منها حتى ينسحب منها أحد الأحزاب المشاركة فيها مما يؤدى إلى إسقاطها وإجراء انتخابات جديدة. تصور بولانجيه أن الأحزاب هى سبب عدم الاستقرار السياسي، وأن غيابها سيحقق هذا الاستقرار إذا اقترن بتغيير النظام الديمقراطى البرلماني. وفى المقابل لا تريد لوبان ومؤيدوها اليوم تغيير النظام الرئاسى فى فرنسا، بل تطمح للوصول إلى قمته، وتبحث الآن عن حل يتيح لها خوض انتخابات 2027 بعد الحكم القضائى الذى يمنعها من الترشح لمدة خمس سنوات. أما على صعيد السياسة الخارجية فقد تطلع بولانجيه لتغيير الأوضاع فى أوروبا بعد هزيمة فرنسا فى حرب 1871، فيما تدعو لوبان إلى ما تعتبرها إصلاحات ضرورية فى الاتحاد الأوروبي.