بقلم : فاطمة ناعوت
ماذا على العظماءِ أن يفعلوا حينما يُغتالون أدبيًّا ومعنويًّا؟! هل يحملون سيوفَهم ويذودون عن أنفسهم؟ هل يقودون جيادَهم ويقتحمون حصونَ العدو ليدكّوها فوق رؤوسهم؟ هل يجوبون الطرقات حاملين الأبواق ليسردوا على الملأ دنايا خصومهم وفضائحَهم، فتبرأ ساحاتُهم؟ هل يقرعون الطبول فى الساحات، ويستعرضون جراحهم أمام الجموع، ليشهد الناسُ أنهم طُعنوا، وأنهم لم يكونوا هم الطاعنين؟ لا. مطلقًا. لا يفعل العظماءُ شيئًا. فقط يجلسون فى هدوء يحتسون قهوتَهم ويتسمعون إلى الموسيقى، ويبتسمون وهم يشاهدون أعداءهم يتساقطون من تلقاء أنفسهم تحت معاول الشرفاء. ومن هم الشرفاء؟ الظهيرُ الشعبى للعظماء.
أكثرُ ما يُبهجُنى فى كل محاولةٍ لهدم رموز مصرَ الفكرية أو الأدبية أو الفنية أو العلمية أو السياسية، هو تأملُ الجدار الشعبى الفولاذى الذى تتكسر عليه رصاصاتُ الحسد وسهامُ الغَيرة التى يطلقها أعداءُ مصر على قواها الناعمة. تتجلّى عبقريةُ الشعب المصرى فى سحق «الأصفار»، التى تتقافزُ وتتواثبُ وتتقلَّبُ وتتشقلبُ فى محاولات يائسة بائسة لهدم «الرقم الصعب”.
ويبدو أن هذا نمطٌ تاريخى متكرر لم يخلُ منه عصرٌ ولا فرَّ منه مجتمع. يخبرنا التاريخُ كيف سخر أدعياءُ الفنّ من «فان جوخ»، ثم جعلته البشريةُ أيقونة الجمال الإنسانى الخالد، وكيف حورب «جيمس جويس» ومُنعت روايتُه «عوليس» من التداول، لكن القراءَ جعلوه حجرَ الزاوية فى الأدب الحديث، وكيف سُخر من «ألبرت آينشتين» باعتباره متوحدًا غريبَ الأطوار؛ لكن المجتمعَ العلميَّ حوَّله إلى أيقونةِ «عقل العصر»، وكيف تعرّض «تشارلى شابلن» لحملات تشويه فى الصحافة الصفراء، فحفظه الجمهورُ العالمى ضميرًا للضحك الحزين، وكيف سُخر من إبداع «فرجينيا وولف» باعتباره من الهذيان النسوى، لكن القراءَ جعلوها واحدةً من أعمدة الحداثة الأدبية. وفى مصرَ حورب »طه حسين« من صغار الكتّاب وشيوخ الضجيج، فحماه الوعيُ الثقافى حتى ظلَّ عميد الأدب العربى شاهقَ القامة أحدَّ بصرًا وبصيرةً ممن حاولوا هدمه. ونُحر «نجيب محفوظ» بخطاب تكفيرى بائس، فحوّله المثقفون إلى رمز أخلاقى للأمة. ولوحق «يوسف شاهين» بتشويه أخلاقى تعس، فرفعه جمهوره إلى العالمية. وكُفِّر «أحمد لطفى السيد» وجعله الزمنُ رمزًا للعدالة والتنوير. والأمثلة لا تنتهى منذ سقراط، وبيكاسو، وكافكا، وتولستوى، وغيرهم، فى كل مرة لا ينتصر العظيمُ بنفسه لنفسه، بل ينتصر له الناس والتاريخ. لأن الدفاع هنا ليس عن شخص، بل عن معيار، وعن معنى، وعن قيمة. فى كل مرة يمتلك الصغارُ أبواقَ الضجيج والصراخ، والناس يملكون الزمنَ. والزمنُ دائمًا فى صف الكبار.
بعد الأحداث الكوميدية الأخيرة هاتفتُ المايسترو «محمد صبحى» لأطمئن عليه. وكان حديثًا طويلا أخبرنى فيه عن المسرحية الجديدة التى يعمل الآن على رسم خُطّتها، وسوف تكون بحق مفاجأة حقيقية، ولكن غير مسموح لى الحديث عنها الآن. وفى نهاية المكالمة ضحكتُ وقلتُ له: «سيبك من كل ده يا مايسترو... إيه رأيك فى جمهورك الذى ردَّ عنك سهامَ الحسد، فارتدت إلى صدور الحاسدين؟» فقال كلمتَه التى خلدتها الصحف: «احترمتُهم، فاحترمونى».