غاب أمر في غاية الأهمّية عن نعيم قاسم الأمين العام لـ”حزب الله” في خطابه الناري الذي جاء مباشرة بعد زيارة علي لاريجاني، الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، لبيروت. يتمثّل هذا الأمر في عامل الوقت الذي لا يعمل لمصلحة الحزب ولا لمصلحة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. كلّما مرّ الوقت زاد “حزب الله” ضعفا نظرا إلى عدم قدرة إيران على تزويده بما كانت تزوده به سابقا من سلاح ومال. يعود ذلك بكلّ بساطة إلى التغيير السوري، وهو تغيير ذو بعد تاريخي جعل من عودة إيران إلى سوريا عودة مستحيلة مع ما يعنيه ذلك من انهيار من الجسر الإيراني إلى لبنان.
لا يفيد في شيء تهديد لبنان بـ”حرب أهلية” في وقت يشهد البلد استمرارا لسياسة تغييب العقل، التي تعني أوّل ما تعني استغباء أبناء الشعب اللبناني من جهة وربط مصير البلد برغبات قوة خارجية اسمها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران من جهة أخرى.
لا تقدّم الزيارة التي قام بها علي لاريجاني، الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، لبيروت ولا تؤخّر. ما كتب قد كتب بعدما أقدمت حكومة نواف سلام في جلسة لمجلس الوزراء انعقدت برئاسة رئيس الجمهورية جوزيف عون على خطوة، أقلّ ما يمكن أن توصف به، بأنّها خطوة تاريخية. حدّدت الحكومة موعدا للانتهاء من سلاح الحزب. للمرّة الأولى منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1969، هناك حكومة لبنانيّة تتجرّأ على المس بالسلاح غير الشرعي، أي بسلاح حزب تابع لـ”الجمهورية الإسلاميّة” في إيران.
عمليا يتصالح لبنان مع نفسه ومع واقع أنّ لا وجود لدولة قابلة للحياة في حال لم يكن جيشها يحتكر السلاح. متى يتصالح “حزب الله” بدوره مع لغة العقل والمنطق
يظلّ أهمّ ما في موقف الحكومة اللبنانية التزام موعد محدّد، هو نهاية السنة، للإعلان عن أن لبنان صار خاليا من السلاح غير الشرعي؛ أي من السلاح الإيراني الذي ورث السلاح الفلسطيني بعد العام 1982. هل تحديد الموعد وراء جنون الحزب وردات فعله الخارجة عن كلّ عقل ومنطق؟
عمليا يتصالح لبنان مع نفسه ومع واقع أنّ لا وجود لدولة قابلة للحياة في حال لم يكن جيشها يحتكر السلاح. متى يتصالح الحزب، بدوره، مع لغة العقل والمنطق، علما أن لا شيء يمنعه من ذلك باستثناء أنّه يتبيّن يوما بعد يوم أنّ طهران تمسك تماما بقراره؟ هل جاء لاريجاني، الذي استعاد مكانته في طهران، لجعل الحزب يبتلع جرعة تواضع ناجمة عن الهزيمة التي مني بها وهي جزء لا يتجزّأ من الهزيمة الإيرانيّة الكبرى على الصعيد الإقليمي.
عاجلا أم آجلا، ستكون هناك مصالحة بين الحزب والواقع، لا لشيء سوى لأنّ عوامل إقليمية ودولية تتحكّم بالوضع اللبناني فيما موقع “الجمهوريّة الإسلاميّة” يتراجع في المنطقة وما هو أبعد من المنطقة. يدلّ على ذلك الاتفاق الذي توصلت إليه أرمينيا وأذربيجان برعاية أميركيّة من أجل إقامة ممرّ يربط أذربيجان بجيب تابع لها داخل الأراضي الأرمينية. كان الاتفاق الذي وقع بحضور الرئيس دونالد ترامب ضربة لإيران في منطقة كانت تعتقد أنّ لها دورا تلعبه فيها، خصوصا في ضوء قربها من أرمينيا.
ما يفترض بالحزب أخذ العلم به، هذا إذا كان مسموحا له، إيرانيا، أخذ العلم بحدث أو تطور ما على صعيد الإقليم أو العالم، هو أنّ المنطقة كلّها تغيرت. لا يعود ذلك إلى أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” خسرت سوريا والنظام العلوي الذي أسسه حافظ الأسد نهائيا وأن لا عودة لها إليها فحسب، بل لأنّه بات عليها الدفاع عن نظامها داخل إيران نفسها. في أحسن الأحوال، سيبقى لدى إيران بعض النفوذ في العراق حيث بات مطروحا مصير سلاح “الحشد الشعبي”، وهو مجموعة من الميليشيات العراقيّة التابعة لـ”الحرس الثوري”.
لن تفيد الحزب التظاهرات الليلية. لن يفيده في شيء التركيز على تخوين نواف سلام ومراعاة رئيس الجمهوريّة. لن تفيده عنتريات رئيس "كتلة الوفاء للمقاومة"، وهي عنتريات تستخدم للتغطية على حال الضياع والضعف
يلعب الوقت لمصلحة لبنان وليس لمصلحة الحزب وإيران. يعود ذلك إلى أن لا وجود لـ”حزب الله” من دون إيران التي ستجد أنّ عليها في المستقبل القريب الإقدام على خيارات جديدة. ثمة ثمن سيتوجب على “الجمهوريّة الإسلاميّة” دفعه في ضوء خسارتها كلّ الحروب التي خاضتها على هامش حرب غزّة التي كان لها أصلا دور في افتعالها من خلال العلاقة القوية، بل العضوية، التي ربطتها بـ”حماس”. يبدو تراجع النفوذ الإيراني في لبنان جزءا من هذا الثمن الذي لا تزال طهران ترفض دفعه.
لا حاجة إلى الدخول في تفاصيل الوضع الداخلي الإيراني، بما في ذلك أزمة المياه التي يعاني منها البلد. طهران نفسها يمكن أن تكون من دون مياه في المستقبل القريب، باعتراف رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان، حسب تقرير في “فورين بوليسي” نشر قبل أيام. صرفت “الجمهوريّة الإسلاميّة” الأموال على ميليشياتها في المنطقة وعلى برنامجها النووي… ولم تجد وقتا لمعالجة أزمة المياه التي باتت تهدّد ملايين الإيرانيين الذين يعيش نصفهم تحت خطّ الفقر!
إيران لم تعد إيران. الحزب الذي خسر “حرب إسناد غزّة” لن يعود الحزب نفسه الذي كان يحكم لبنان في الأمس القريب. هذا الحزب، الذي أوصل ميشال عون وجبران باسيل إلى موقع رئيس الجمهورية وجعل من جبران باسيل، عندما كان وزيرا للخارجية، ممثلا لوزير الخارجية الإيرانية وناطقا باسمه في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربيّة، بات مضطرا إلى أخذ حجمه الحقيقي.
لن تفيد الحزب التظاهرات الليلية التي يقوم بها أنصاره مستخدمين دراجات نارية ومطلقين هتافات ذات طابع مذهبي. لن يفيده في شيء التركيز على تخوين نواف سلام السنّي ومراعاة رئيس الجمهوريّة المسيحي في الوقت ذاته. لن تفيده خصوصا عنتريات رئيس “كتلة الوفاء للمقاومة” محمد رعد، وهي عنتريات تستخدم للتغطية على حال الضياع والضعف التي يعاني منها.
ما يفترض في نعيم قاسم استيعابه، أن صفحة الحزب في لبنان طويت. طويت معها صفحة سيطرة إيران على لبنان مثلما طويت صيف العام 1982 صفحة السلاح الفلسطيني وفي نيسان – أبريل 2005 صفحة الوجود العسكري والأمني السوري.