منذ الثلث الأوّل من القرن التاسع عشر، مع إصلاحات ابراهيم باشا المصريّ والتنظيمات العثمانيّة، هناك روايتان تاريخيّتان عريضتان تتصارعان على التاريخ، وتالياً على الواقع. لكنّ روايات فرعيّة كثيرة تحدّرت وما زالت تتحدّر عن هاتين الروايتين الكبريين. فالإصلاحات والتنظيمات المذكورة، التي حاولت أن تنقل إلى المنطقة بعض خلاصات التجارب الأوروبيّة وأن تُشرعها على بعض جوانب الحداثة الأوروبيّة، أُرفقت بأفكار خلافيّة كثيرة وبدم أكثر توزّع على المدن والمناطق السوريّة واللبنانيّة.
ومع انقلاب 1908 الذي أعاد العمل بدستور عطّله السلطان عبد الحميد، عاود الانشقاق الكبير التعبير عن نفسه، واكتسب الاصطفاف يومذاك لوناً طبقيّاً حادّاً معطوفاً على ألوانه الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة.
لكنّ إلغاء كمال أتاتورك الخلافة في 1924 كان الحدث الذي عبّأ العالم الإسلاميّ من أقصاه إلى أقصاه. فذاك الزلزال وجد مَن اعتبره تساوقاً مع عالم الدول الأمم ما بعد الامبراطوريّ الذي افتتحته الحرب العالميّة الأولى، لكنّ أعداداً أكبر كثيراً رأت فيه نهاية زمن العظمة الامبراطوريّة وسحباً مرفوضاً للدين من الحياة العامّة. ولم يكونوا قلّةً، كما لم يكونوا قليلي الأهميّة، أولئك الذين رشّحوا أنفسهم للخلافة، فكان في عدادهم ملك مصر فؤاد الأوّل والشريف حسين بن علي. كما انعقد في مصر، أواسط 1926، «المؤتمر الإسلاميّ العامّ للخلافة» الملغاة.
وتحوّلت الخلافة، وقد تأكّد أنّها غير قابلة للبعث والاستعادة، مادّة دسمة للسجال السياسيّ الذي طال وتشعّب. فمثلاً، أشاع الحاج أمين الحسيني أنّ خصمه فوزي القاوقجي، القائد اللاحق لـ «جيش الإنقاذ»، عميل بريطانيّ، فردّ الثاني بأنّ الأوّل يعمل مع الألمان على إحياء الخلافة. وكانت قد شاعت رواية تقول إنّ النازيّين، وقد هُزموا في العلمين وفي روسيا، راهنوا على تعويض هزائمهم بكسب المسلمين في الهند البريطانيّة. وهكذا اختير الحسيني كي يكون الخليفة الجديد الذي يتنازل له عن الخلافة السلطان عبد المجيد الثاني، آخر السلاطين الأحياء المقيم يومذاك في باريس.
ولا يزال يتردّد، حتّى يومنا هذا، بعث الخلافة والسلطنة مع الحركات الإسلاميّة المتطرّفة التي تقول أدبيّاتها إنّ إلغاء الخلافة أصل اللعنة التي تنتاب عالمنا، فيما لا يعاود التاريخ الصائب مسيرته إلاّ باستعادتها.
وفي هذه الغضون عجزت الوطنيّات، التي يُفترض بها الجمع والتوحيد، عن النجاة بنفسها من الانقسام المُرّ. فالوطنيّة المصريّة، وهي أكمل زميلاتها العربيّة، لا تزال تستند إلى مرجعين نقيضين: واحد ظهر أواخر القرن التاسع عشر، ورمز إليه مصطفى كامل ومحمّد فريد، يؤكّد إسلاميّته ويرفض الانفصال عن السلطنة العثمانيّة التي يريد لمصر موقعاً مميّزاً فيها، وآخر ظهر في بواكير القرن العشرين، ورمز إليه أحمد لطفي السيّد وسعد زغلول، مؤكّداً علمانيّته ومعتبراً أنّ مصر كيان قوميّ مكتفٍ بذاته.
وحذت الوطنيّات الأخرى في لبنان والعراق حذو الوطنيّة المصريّة، فإذا بكلّ «وطنيّ» يخوّن «الوطنيّ» الآخر ويتّهمه ببيع الوطن، غير المتّفق عليه وعلى طبيعته، لاستعمارٍ هو أيضاً غير متّفق عليه وعلى طبيعته.
وكان كلّما ضاق الخلاف السياسيّ بالأهاجي، اتّسع لها الخلاف الثقافيّ. هكذا ظهر بيننا من يستلّ مفهوم «الشعوبيّة» من العصر العبّاسيّ ليقصف به «أخوةً في الوطن»، ظهور من يقسم «الأخوة» إلى «ثابت» هو الآخرون و»متحوّل» هو نحن.
أمّا حين بدت إسرائيل غير كافية لتفسير هذا التفتّت المتمادي، فكان «الاستشراق» يهبّ لإنجادنا، بما يحفظ لنا صورتنا النقيّة المزعومة عن أحوالنا.
وإذ تنبعث اليوم ظاهرات وتسميات كـ «الأمويّة»، ويُكتشف أنّ يوم 6 مايو (أيّار) 1916 لا يليق به أن يكون عيداً، فيما ينعقد مؤتمر أقلّيّات في إسرائيل، نتأكّد من حجم الانشقاق المدهش الذي لا ترأبه إدانة المستشرقين ولا إدانة إسرائيل، علماً باستحقاقها الإدانة. أمّا التضامن المشكور «معنا» فما أن يغادر نيويورك ولندن ليقترب قليلاً منّا حتّى يجد نفسه مواجَهاً بالسؤال: هل نتضامن مع أمويّين أم مع عبّاسيّين؟ ومع ثابتين أو مع متحوّلين؟
لقد ميّز المؤرّخ الفرنسيّ الكبير فرناند بروديل بين ثلاثة أنماط في التاريخ يمتدّ كلّ منها على فسحة زمنيّة ما. فتاريخ «الحدث» يدوم ما بين السنة والثماني سنوات، وهو ما يلائم دراسة الحروب والثورات والحملات الانتخابيّة وسِيَر الأفراد، بينما تاريخ «الظرف الراهن» الذي يمتدّ ما بين عشرين عاماً وخمسين، يتناول خصوصاً التطوّرات الاقتصاديّة والتقنيّة والثورات العلميّة والمدارس الفنّيّة، أمّا تاريخ المُدد الطويلة (long duration) فيُقاس بالقرون، ويدور أساساً حول تحوّلات الطبيعة البطيئة والمتدرّجة والتواريخ الجغرافيّة والحدوديّة بين البلدان... وهذا هو التاريخ الأعمق: فإذا كان تاريخ «الحدث» يشبه سطح الماء، وتاريخ «الظرف» يشبه تيّاراً قويّاً من تيّارات الماء، فإنّ تاريخ المُدد الطويلة هو المدّ والجزر، أي القوّة الأعمق والأكثر أساسيّة في دفع المياه وتحريكها.
وإذ تميل نزاعاتنا إلى التشبّه بالأحداث الطبيعيّة والبيولوجيّة، يُخشى أن تندرج، ونندرج معها جيلاً بعد جيل، في تاريخ المُدد الطويلة، مع فارق أساسيّ يطال النتائج الأخيرة.