بقلم : عبد اللطيف المناوي
المؤكد أننا لاحظنا تراجع قيمة الدولار الأمريكى إلى أدنى مستوى له منذ فترة أمام الجنيه المصرى. والحقيقة أن هذا التراجع أصاب العملة الخضراء مقابل العملات الرئيسية الأخرى، والسبب هو دخول الحكومة الأمريكية فى إغلاق فيدرالى، أو إغلاق حكومى بمسماه الشائع.
هذا الإغلاق هو الـ١٥ من نوعه منذ عام ١٩٨١، ووصلت إليه إدارة البيت الأبيض حاليًا بسبب الطريق المسدود والعميق بين الرئيس دونالد ترامب (الجمهوري) والديمقراطيين فى الكونجرس، بسبب الفشل فى إيجاد تمويل برنامج الرعاية الصحية.
الإغلاق الحكومى أصبح مشهدًا يكشف عمق الأزمة السياسية التى تعصف بواشنطن، ولكن ما الذى يعنيه هذا المصطلح المقلق للأمريكيين، وربما العالم؟
ببساطة شديدة، تصل الحكومة الأمريكية لمرحلة الإغلاق فى اللحظة التى تعجز فيها الدولة عن تمويل مشروعاتها، أو تمرير ميزانية جديدة، ولو حتى تمديد لتمويل مؤقت بالحد الأدنى. هنا تتوقف عجلة مؤسسات الحكومة الفيدرالية عن العمل جزئيًا، فتُقسم الوظائف إلى أساسية وغير أساسية، بمعنى أن تستمر الوظائف الحيوية والضرورية مثل الأمن، الجيش، الطوارئ، مراقبة الطيران، حتى وإن كان موظفوها يعملون مؤقتًا بلا أجر، أما بقية القطاعات، من البحوث العلمية إلى بعض البرامج الصحية والاجتماعية، فتتوقف أو تُجمّد إلى أن تُحل الأزمة.
الأسباب دائمًا سياسية قبل أن تكون مالية. ففى كل مرة يتحول الخلاف على الإنفاق إلى أداة للصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين، حيث يجد الأمريكيون أنفسهم أسرى صراع حزبى يشل الدولة بأكملها، فلا أحد فيهما يرفض التنازل، فى مشهد يكاد يختصر عجز أكبر قوة اقتصادية عن إدارة شؤونها اليومية.
الإغلاق الحكومى نتائجه ليست بسيطة، فمئات الآلاف من الموظفين يُرسلون إلى منازلهم فى إجازات إجبارية بلا راتب، فيما يواصل آخرون عملهم دون أن يروا رواتبهم فى مواعيدها. الاقتصاد يخسر مليارات الدولارات أسبوعيًا بسبب توقف الأنشطة وتأجيل الصرف. شركات تنتظر تراخيص، مواطنون يترقبون قروضًا أو خدمات، وباحثون يعولون على تمويل حكومى، كلهم يجدون أنفسهم فى حالة شلل تام. حتى الأسواق العالمية تراقب بقلق، فاهتزاز الثقة بالاقتصاد الأمريكى سرعان ما ينعكس على العملات وأسعار الفائدة والاستثمار الدولى. أما وكالات التصنيف الائتمانى فلا تتردد فى التحذير من آثار الخطوة السلبية على اقتصاد الولايات المتحدة، واقتصاد العالم.
أظن أن الأخطر فى الإغلاق الأخير، هو الصراع الواضح بين ترامب والديمقراطيين، فى بلد من المفترض أن تكون هى واحة الديمقراطية الأولى، لكنها لأسباب واضحة للجميع، صارت تعانى من هشاشة التوافق السياسى.
إذن، الإغلاق الحكومى هذه المرة، يُظهر عمق الأزمة. وهو بالتأكيد رسالة للعالم أن أكبر اقتصاد يمكن أن يتوقف عن العمل بسبب نزاع بين مشرعين فى قاعة الكونجرس.
وبقدر ما يعكس ذلك قوة الديمقراطية فى إتاحة الخلاف العلنى، فإنه يكشف فى الوقت ذاته خطورة أن يتحول الخلاف السياسى إلى أداة لشل الدولة.