بقلم : فاطمة ناعوت
لا يملك الإنسانُ أن يختار الأيام التى تُثقل قلبَه بالذكريات والوجع، أو تُفاجئه بالرموز والمعانى. فالزمن يُلقى أحيانًا على المائدة أكثر مما تحتملُ الروح. ويوم الثالث عشر من أغسطس، موعد استثنائيٌّ يراوح عندى بين الخاص والعام. فهو يوم رحيل أبى، المتصوّف النقيّ الذى علّمنى المحبة والعدل والتسامح، وهو «اليوم العالمى لمستخدمى اليد اليسرى»، ذاك الاحتفاء البسيط بسبعة فى المائة من البشر، أنا منهم، شاء الجينوم البشرى أن يسلكوا دربًا مغايرًا للغالبية. وبما أننى كتبتُ عن أبى الذى أورثنى القيم، أكتب اليومَ عن العُسْر الذين أورثهم القدر اختلافًا. فثمة خيطٌ خفى يربط بين الرجل الذى علّمنى احتضان الاختلاف، وبين انتمائى إلى طائفة وُسِمت عبر التاريخ بالاختلاف.
فى أحد المولات، شاهدتنى صبيةٌ وركضت نحوى بلهفة وعانقتنى بحب قائلةً إنها تحبُّ مقالاتى وتحتفظ ببعض كتبى وإننى مَثَلُها الأعلى. ثم لمعت عيناها فجأة وهتفت: (وكمان أنا فرحانة إنى «شولة» زيك. الأول كنت متضايقة أوى. بس لما عرفت إنك شولة بقيت فخورة إنى باشبهك فى حاجة!) سألتُها: (وليه زعلانة إنك شولة؟) قالت: (حاجات كتير مش متصممة علشانا. المقص، ساعة اليد، الحاجز الإلكترونى فى المترو، الجيتار، البيانو، الماوس، القلم الحبر، شريط القياس، مقاعد المحاضرات، بندقية الرماية، فتاحة المعلبات، الفتيس، سوستة البنطلون، ووو. بينسونا لما بيخترعوا!).
ولعل أجمل ما فى المصادفات أنها تكشف ما يغيب عن وعينا. فما منحنى أبى من دروس الصبر وقبول الآخر، هو ذاته ما جعلنى أبتسم لتلك الفتاة الصغيرة فى المول، حين احتضنتنى. هناك أدركتُ أن الاختلاف ليس نقمة، بل هو علامة على فرادة لا يدركها إلا من تذوّق مرارتها. أن تكون أعسر، هو أن تقاوم الأدوات المصمّمة ضدك لتشاكسك، كما تقاوم الصور النمطية التى تطاردك عبر اللغات والثقافات. لكن فى المقابل، هو أيضًا أن تملك فصًّا دماغيًا يميل إلى الخيال والفن والرياضيات. وهكذا، يصبح العُسْر أشبه بالغرباء الذين يزرعون الجمال فى الحقول الموحشة، ويتركون أثرًا مضيئًا فى ذاكرة العالم. ولأننى وعدتُ «مروة»، هذا اسمها، أن أفسّر لها «سر العُسر»، أكتبُ هذا لها.
يُطلقُ علينا الأمريكان فى العامية southpaw، (مِخْلَب الجنوب). لأن ملاعبَ البيسبول تُصمَّم باتجاه الشرق لكيلا تؤذى أشعةُ الغروب عيونَ اللاعبين. ولكن اللاعب الأعسر، يقذف الكرة نحو الجنوب. ويقول العِلمُ إن چين LRRTM١، هو المسؤول عن العَسَر، لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم فى نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينة الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر، فنانين وأدباء وفيزيائيين.
ولكى لا تشعر «مروة» بالعُزلة، أخبرُها أن رائعين مثل: آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندى، نيوتن، مارى كورى، داڤنشى، مايكل-آنجلو، بيكاسو، كاسترو، مارادونا، ميسّى، توم كروز، آرم سترونج، بيل جيتس، ومعظم رؤساء أمريكا، وغيرهم، من العُسر. ولذلك لا عجب أن تُعلن منظمة Mensa، التى تضمُّ أذكياء العالم، أن معظم العُسر ذوو نسب ذكاء مرتفعة.
ومثلما اِشتُقَّت مفردةُ «أعسَر» من «العُسْر»، نقيض «اليُسْر»، نجد فى الإنجليزية مترادفات الأعسر left-handed، تحمل دلالاتٍ سلبيةً. منها sinistral المشتقة من الجِذر sin (خطيئة)، كأنما الأشول خطاءٌ! وفى العبرية، وبعض اللغات السامية واللهجات القديمة لبلاد ما بين النهرين، كانت «اليدُ» ترمز للقوة والسيادة، وبالتالى ترمز «اليدُ اليسرى» لسلطة الاعتقال الغاشمة، وكذلك سوء الطالع والنحس، ومسٌّ من غضب الآلهة! كذلك فى عديد اللغات الأوروبية، مثل الإنجليزية والهولندية والألمانية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية؛ نجد مفردة «يمين» right لا تحملُ وحسب معنى السَّواء والصَّلاح والصِّحة (عكس الخطأ)، بل أيضًا معنى «الحق والعدالة». وتاريخيًّا، أنْ تكون «أيمنَ» فذلك يعنى أنك ماهرٌ. لأن الجذر اللاتينى dexter يعنى «أيمن» ويعنى «ماهر» فى آن. وفى الأيرلندية deas تعنى «يمين» وتعنى: «لطيف» أو «جميل». وفى المقابل كلمة gauche بالفرنسية تعنى «يسار» وتعنى «أخرق». والأمر ذاته فى الهولندية والبرتغالية: (له يدان يُسراوان ) يعنى أنه (أبْلَه). وفى الإنجليزية: (ذو قدمين يسراوين) يعنى فاشل فى الرقص. والحقُّ أننى وقعتُ على ما لا يُحصى من تعبيرات لليد اليسرى، فى لغات أوروبا وجنوب آسيا، تصبُّ جميعها فى النهر السلبىّ! وبالطبع لا ننسى المُحمّل السياسىّ فى كلمتىْ: (اليمين، اليسار).
وهكذا يا صغيرتى العسراء؛ مأساتُنا ليست فقط مع الأدوات «العنصرية» التى نعانى عند استخدامها، ولكن الأخطر والأقسى أن لدينا أزمة تاريخية مع المُحمّل المعرفى السيئ لمستخدمى اليد اليسرى، فنحن بالفعل «غلابة»!