قانونُ النبلاء

قانونُ النبلاء

قانونُ النبلاء

 العرب اليوم -

قانونُ النبلاء

بقلم : فاطمة ناعوت

فى تاريخ البشر، ثمة قوانين لا تسطرُها البرلمانات، ولا تصادق عليها المحاكم، لكنها تسكن «ضمير الوجدان الإنسانى»؛ منذ النفس الأولى. أحد أرقى هذى القوانين هو «واجب النبلاء». قانون غير مكتوب، لكنه أسبق من جميع الدساتير. يقول ببساطة: الامتياز يقابله واجب، والرفعة ليست زهوًا فى الأبراج العاجية، بل نزول للشوارع الموحلة لمدّ اليد لمن لا يملكون.

«واجبُ النبلاء» هو مبدأ أخلاقى ظهر على ألسن المفكرين والأدباء فى فرنسا فى زمن الملوك والطبقة الأرستقراطية، فى ق ١٦، ليعبر عن التزام طبقة النبلاء بمسؤولياتهم تجاه الشعب. ثم ترسّخ المصطلح فى «قاموس الأكاديمية الفرنسية» عام ١٨٣٥ بصيغة Noblesse oblige أى: «النبلُ يُلزمُ صاحبَه بالتصرف بنبل». لكن للفكرة جذورًا أقدم تعود للقرن ١١ مع تقاليد «الفروسية»، حيث كان «الفارس النبيل» يحمى الضعفاء والأرامل والأيتام، ولا يرفع سيفه إلا نصرةً للحق. من هنا صار لقب «فارس» فى الأدبيات رمزًا للشهامة. والمعنى ببساطة أن الامتيازات الاجتماعية والسياسية والمالية ليست حقوقًا مجردة، بل مسؤوليات أخلاقية وإنسانية تجاه المجتمع، وخصوصًا تجاه الفقراء والضعفاء. فمن يمتلك سلطة أو مالا أو معرفة، يمنح للآخرين خدمة وتواضعًا ورعاية. وإذا رجعنا على خط الزمن سنجد لهذا المبدأ جذورًا فى العصور الإغريقية والرومانية، إذ نظروا إلى «الأرستقراطية» باعتبارها: «حَمَلة المسؤولية»، لا مجرد أصحاب امتياز.

وهذا عين ما أوصانا به اللهُ تعالى، وأقرّته الكتب المقدسة. فى القرآن الكريم: «وآتوهم مِن مالِ اللَّه الذى آتاكم». وفى الإنجيل: «ومَن أُعطى كثيرًا يُطلبُ منه كثيرٌ». فالنبلُ ثمرةُ تربيةٍ رفيعة وتحضّر وعلوّ يجعل المانحَ يرى فى الآخرين امتدادًا لذاته. ولا يتجلّى النُبل إلا حين يُختَبر الإنسان أمام حاجة غيره وعوزه وضيق حاله. فالنبل ليس جواز سفر للامتياز، بل عهدٌ بالمسؤولية. فما قيمة لقبٍ أو سلطةٍ أو ثروة، إذا لم يقابلها فعل رحيم أو موقف عادل أو كلمة تحمى المظلوم؟ كل قوةٍ لا تتزيّا بالرحمة تصير قسوة، وكل رفعةٍ بلا مسؤولية تهوى بأصحابها إلى مقصلة الضمير.

لقد أدرك الحكماءُ أن العظمة ليست فى أن يخلّدك التاريخ بأمجاد نجاحاتك وانتصاراتك فى المعارك وتشكيل الثروات، بل أن يذكرك الناس بفضائلك وعطاياك. لهذا كان النبيل الحقيقى هو من يتقدّم الصفوف ساعة الخطر، ومن يُنفق ماله أو وقته أو علمه فى خدمة الآخرين.

فى تاريخ الإنسان، لا تُقاس العظمة دائمًا بما تُسطِّره الجيوش على حدود الخرائط. بل كثيرًا ما تُقاس بما تُخفيه اليدُ خلف الكواليس: يدٌ تَمسح دمعة، أو تَمنح فرصة، أو تُشيّد مدرسة للفقراء، أو تساعد مكلومًا فقد ابنه، أو ثكلى فقدت وليدها، أو طفلا تيتّم قبل أن يعى قسوة اليُتم. منذ القدم، أدركت الشعوب أن كل امتيازٍ اجتماعى أو سياسى أو اقتصادى لا يكتمل إلا بمسؤولية أخلاقية تجاه الآخرين. هنا نشأ «واجب النبلاء». ولئن كان هذا المبدأ قانونًا غير مسطور، لكنه يظلُّ أقوى من آلاف القوانين المدونة.

اليوم، لم يعد «واجب النبلاء» حِكرًا على طبقة أرستقراطية ولّى زمانها، بل صار قانونًا أخلاقيًّا يطال كلَّ صاحب امتياز: السياسى، الكاتب، رجل الأعمال، الفنان، وأى إنسانٌ مَنّ الله عليه من سعته، وأُتيح له موقع تأثير أو سلطة أو حتى كلمة مسموعة. فالمكانة هبةٌ، لكنها أيضًا امتحان صعب: هل ستجعل منك سيّدًا متعجرفًا، أم خادمًا للبشرية؟ فن يرتدى معطف النبل عليه أن يعتمر معه قبعة الأخلاق، المغزول بخيوط قانون غير مكتوب يهمس فى أذن كل صاحب مكانة: «تذكر أن امتيازك ليس تذكرة للعظمة، بل هو دعوة لخدمة الآخرين».

أكتبُ هذا المقال لأشكر أحد أولئك النبلاء الذين يصنعون الخير فى الخفاء ويرفضون حتى كلمات الشكر. أكتبه لأن من واجبنا الإشادة بالجمال مثلما نرفعُ أصبع التحفظ فى وجه الدمامة. قبل أسابيع، شهد حىّ «بولاق الدكرور» جريمةً مأساوية سجلتها كاميرات المراقبة واهتزت لها أركان صفحات التواصل، حين أشهر أحد البلطجية تحت تأثير المخدرات سكينًا فى وجه أحد الشباب فأطاح برأسه فى وضح النهار. هذا الشباب المغدور كان معروفًا بين أبناء حيّه الشعبى بالطيبة ومساعدة الناس. وترك خلفه طفلين صغيرين، وزوجةً حزينة، وأبًا مكلومًا وأمًّا لا تجفُّ دموعها، كان هو عائلهم الوحيد. قبل مقتله اشترى سيارة ليعمل عليها ويعول عائلته. ولأنه رقيق الحال دفع ثمنها بقرض من شركة «مشروعى» لتمويل المشاريع الصغيرة، ولم يمهله القدرُ ليسدد شيئًا من أقساطها.

حين بلغ الخبر مدير الشركة، السيد «فريدى غبور»، قام على الفور بسداد القرض كاملًا من ماله الخاص، وأعفى الأسرةَ المفجوعة من جميع التبعات. هنا يتجلى «واجب النبلاء» حيًّا نابضًا: مسؤوليةٌ لا يفرضها القانون، بل يتوجها الضمير. شكرًا «آل غبور» وطوبى للنبلاء.

arabstoday

GMT 04:29 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

حسن الخطاب من أدب المقام

GMT 04:27 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

أميرة السودان... هذا جناه أبي عليّ!

GMT 04:26 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

اقتصاديات الطاقة الحديثة

GMT 04:24 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

سوريا أولاً

GMT 04:22 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

ليبيا من وجع سبتمبر إلى أوجاع فبراير

GMT 04:20 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

فضيلة الاستقرار: من التوحيد إلى الرؤية

GMT 04:18 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

ستقف الحرب من دون رغبة المتحاربين

GMT 04:14 2025 الثلاثاء ,02 أيلول / سبتمبر

ضم الضفة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قانونُ النبلاء قانونُ النبلاء



ليلى أحمد زاهر تلهم الفتيات بإطلالاتها الراقية ولمساتها الأنثوية

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 05:20 2025 الإثنين ,01 أيلول / سبتمبر

توغل إسرائيلي في تل كروم بريف القنيطرة

GMT 07:01 2025 الإثنين ,01 أيلول / سبتمبر

مجموعة قرصنة صينية تخترق 200 شركة أمريكية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab