تعدّ ظاهرة التحوّل من خطابات التطرف إلى الاعتدال من أكثر الظواهر تعقيداً في العلوم الاجتماعية والسياسية، خصوصاً في السياقات التي تشهد أزمات كبرى أو محطات فاصلة. من الطبيعي حين يهيمن الخوف والتهديد الوجودي، أن تميلَ الجماعات والأفراد إلى تبني خطابات متشددة تقوم على الإقصاء والهويّة الصلبة، بينما في لحظات الاستقرار والانتصار يبرز خطاب أكثر اعتدالاً يدعو إلى إعادة البناء والتعايش. هذه الديناميكيات ليست مجرد ردود أفعال فردية؛ بل نتاج تفاعل بين البُنى النفسية الجمعية والسياقات الاجتماعية والسياسية المحيطة، وهو ما يجعلها شديدة التعقيد والتأثير في مسارات الدول والمجتمعات الخارجة من الحروب.
النظريات الاجتماعية والنفسية تساعدنا في فهم هذه الظاهرة. فمثلاً، نظرية الهوية في ظل عدم اليقين التي طوَّرها مايكل هَوغ، توضّح أنَّ الأفراد في أوقات الأزمات يبحثون عن هويات جماعية صلبة لتقليل شعورهم بالارتباك، وهو ما يفسر انجذاب كثير من السوريين أثناء الحرب، إلى خطابات متشددة تعطيهم يقيناً وانتماءً واضحين. لكن مع الاستقرار ينخفض منسوب القلق الوجودي، فتضعف جاذبية تلك الخطابات، ويبرز مجال أوسع لخطاب الاعتدال. كارل مانهايم أيضاً قدّم نظرية مهمة حول التحولات الاجتماعية؛ مفادها أنَّ الأزمات تولّد «أفكار أزمة» تعكس الانقسام والخوف، بينما تحتاج المجتمعات في لحظات البناء إلى إعادة صياغة هذه الأفكار في صورة «آيديولوجيا بناء» تكرّس المواطنة.
هذا ينطبق بدقة على سوريا اليوم، التي ما زالت تتأرجح بين رواسب خطاب الأزمة ومتطلبات خطاب الدولة. في المقابل، تؤكد نظرية بناء الدولة التي صاغها تشارلز تيلي، أنَّ احتكار العنف الشرعي وبناء مؤسسات قوية هما الشرط الأساسي لقيام الدولة الحديثة. وهذا التحدي قائم في سوريا، إذ ما زالت الدولة الوليدة مطالبة بانتزاع سلطة السلاح من الجماعات ودمجه ضمن إطار شرعي يضمن حماية الجميع.
من هنا نفهم أنَّ خطابات التطرف التي برزت في سنوات الحرب، يمكن وضعها في سياق التعبير عن «أفكار الأزمة» التي غذّاها الخوف والتهديد وانعدام الأمان ووحشية النظام. غير أنَّ هذه الخطابات لا يمكن أن تجد لها مكاناً في مرحلة بناء الدولة التي تعيشها سوريا اليوم، لأنَّ استمرارها يعني إعادة إنتاج الأزمة نفسها بدلاً من تجاوزها. فالدولة الجديدة مطالَبة بالانتقال من منطق التعبئة والتقسيم إلى منطق المواطنة الجامعة، حيث يصبح خطاب الاعتدال هو الخيارَ الوحيد القادر على تأسيس استقرار طويل المدى.
المجتمع الدولي يتطلَّع إلى هذه اللحظة، ويريد أن يرى سوريا تنهض على أسس جديدة، لأنَّ نجاح الداخل السوري سيعني استقرار المنطقة بأسرها. غير أنَّ التحديات لم تنتهِ بعد؛ إذ ما زال غياب المراجعةِ الفكرية الصريحة يفتح الباب أمام عودة خطابات الأزمة، وما زالت بعض المنابر الدينية تُستخدم للتعبئة والإقصاء. يزيد الأمر تعقيداً تصدّر بعض الشخصيات غير السورية المتطرفة التي تبحث عن دور جماهيري عبر وسائل التواصل؛ لا على سبيل المراجعات والنقد لماضيها وسلوكها الإرهابي، بل لاستثماره في البحث عن موطئ قدم في مرحلة الدولة، ووصف من يتسم بهذه الحالة بـ«المهاجرين». هذه التسمية تحمل دلالات سلبية، لأنَّها تعيد إنتاج المفهوم المتطرف للتنظيمات المسلحة كـ«القاعدة» و«داعش» لمفهوم الهجرة الحركية، وتعني الانتقال من «دار الكفر» إلى «دار الإسلام»، ما يضر بصورة الحكومة الجديدة التي تسعى إلى الاعتدال والإصلاح. كما أنَّ تسويق هذه الشخصيات نجوماً مؤثرين على منصات التواصل، لا يخدم مسار التحول من الثورة إلى الدولة؛ بل يهدد بإعادة تدوير خطاب التطرف بأشكال جديدة تمتد تبعاتها إلى سوريا والمنطقة معاً.
التجارب العالمية تثبت أنَّ الانتقال من خطاب الأزمة إلى خطاب الدولة، يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة الشاملة، كما فعلت جنوب أفريقيا عبر المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية. أمَّا الجزائر والعراق، فقد أظهرا أنَّ غياب النقد الذاتي والإصلاح العميق يبقي الاعتدال هشّاً وسهل الانكسار. سوريا اليوم أمام خيار مصيري: إما أن تترسخ فيها مؤسسات مدنية قوية تحوّل الانتصار السياسي إلى نهضة، أو تظل عالقة في حلقة مفرغة من الخطابات المتشددة.
المساعدة الحقيقية التي تحتاجها سوريا ليست الأموال فحسب؛ بل دعم الحكومة في بناء مؤسسات قادرة على احتكار العنف، وإعادة صياغة الأفكار من «أفكار أزمة» إلى «خطاب معتدل للبناء»، عبر ترسيخ هوية مدنية تخفف من آثار حالة عدم اليقين. عندها فقط سيصبح الاعتدال أكثر من مجرد خطاب ظرفي، بل مشروع طويل المدى يحمي المجتمع، ويمنحه ثقة بنفسه ويكسبه احترام العالم. فازدهار الداخل السوري، القائم على المواطنة الجامعة والمؤسسات الشرعية، هو الطريق الوحيد لنيل دعم المجتمع الدولي، بينما هشاشة الأوضاع وتفاقم خطابات التطرف سيجعلان أي دعم خارجي بلا جدوى مع انقسام الداخل.
في هذا السياق، جاءت كلمة الرئيس أحمد الشرع أمام الأمم المتحدة لتجسد هذا التحول، حين قال إن سوريا «بهذا النصر تحولت من بلد يصدر الأزمات إلى فرصة تاريخية لإحلال الاستقرار والسلام والازدهار في سوريا وللمنطقة بأسرها». وقد لقي هذا التصريح صدى كبيراً، لأنه حمل رسالة أمل تتجاوز الشعارات إلى رؤية لمستقبل مختلف يقوم على الاعتدال والتعايش، ويمنح السوريين والعالم معاً مبرراً واقعياً للإيمان بمرحلة جديدة.
اليوم لا يختلف اثنان في أنَّ العالم بأسره يتطلع إلى أن يرى سوريا، وقد تحولت إلى دولة مدنية قوية، تسع جميع أبنائها وتستعيد مكانتها الحضارية، دولة تنتصر للحياة على الموت، وللمواطنة على الانقسام، وللاعتدال على خطاب التطرف. إنَّها اللحظة التاريخية التي يمكن أن تضع سوريا في قلب خريطة الاستقرار الإقليمي والدولي من جديد.
سوريا التي دفعت أثماناً باهظة للحرب، يمكن أن تتحول اليوم إلى بوصلة جديدة للمنطقة، تعيدها إلى منطق الدولة بعد أن أنهكها منطق الميليشيات والشعارات، وتفتح الطريق أمام نماذج التنمية والاستقرار التي تقودها دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، لتصبح عودة سوريا عودةً للمنطقة كلها إلى أفق جديد من التعايش والازدهار.