هل لاتزال السياسات الأميركية واقعة بين مطرقة الواقعية وسندان المثالية؟
أظهرت الخلافات حول عدد من القرارات الأميركية الأخيرة، لا سيما الهجوم العسكري على إيران، أن أزمة الازدواجية وتكافؤ الأضداد في الروح الأميركية، حاضرة وبقوة، ذلك أنه فيما كان البعض يمدح ضرب المفاعلات الإيرانية، ذهب فريق آخر إلى القدح في القرار انطلاقًا من أن القضية لا تمسّ أمن الولايات المتحدة، وأنه طالما لم يمس أحد حدودها الشرقية والغربية، وراء المحيطين، فما المبرر أو الوازع وراء الانجرار إلى "معارك الغرباء"؟
تحتاج هذه الإشكالية إلى نظرة معمقة، تتجاوز سطحية الأحداث الجارية، والعودة إلى الجذور التي قامت عليها الجمهورية الأميركية، حيث مفهومان حاكمان، القدر الواضح والمدينة فوق جبل، هما اللذان قادا مسيرة الآباء المؤسسين.
لعل أفضل من حاجج في صدد هذه الإشكالية، من المفكرين الأميركيين المحدثين، جورج فريدمان، رجل استخبارات الظلّ، والذي يلفت النظر إلى مفارقة مثيرة في النظرة إلى المساحة الفاصلة بين المثالية والواقعية.
يعتقد رجل ستراتفورد الشهير أن الجدل بين الواقعيين والمثاليين هو، في واقع الأمر قراءة ساذجة للعالم، كان لها تأثير كبير في العقود الأخيرة، فالمُثل والواقع جانبان مختلفان للشيء نفسه، وهو القوة، فالقوة في حد ذاتها وحشية لا تحقق أي شيء باقٍ، ومن المحتم أن تشوه النظام الحاكم الأميركي.
والمُثل بلا قوة مجرد كلمات، فهي يمكن أن تحيا فقط حين تعززها القدرة على الفعل.
يكاد الباحث المحقق والمدقق للسياسات الأميركية، أن يقطع بأن الصراع الداخلي، بين أنصار الواقعية، ودعاة المثالية في الداخل الأميركي، ظاهري، وأن روح القوة الواقعية هو الأساس الذي قامت عليه البنية التحتية السياسية الأميركية، مرتكزة إلى مفاهيم ميكيافيللية بامتياز.
تبدو الواقعية عند صاحب هذه السطور، هي الأصل في المشهد الأميركي، ومن دونها ما كان للجنرال جورج واشنطن أن يتخلص من الحضور الإنجليزي العسكري في بلاده، وما كان ليقدر للرجل الأبيض التمدد من الشرق الأطلسي إلى الغرب الهادئ، بدون قوة النار والبارود للسطو على أراضي الهنود الحمر.
في هذا السياق، ليس سرًّا القول إنّ جُلَّ الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وفي مقدمهم كاتبو الدستور، وعلى رأسهم بنجامين فرانكلين، انتموا معظم حياتهم إلى الجماعات ذات الطباع والخصائص السرية، أولئك الذين يمثل نيقولا ميكيافيللي بالنسبة لهم، حجر زاوية في بنيتهم العقلية والفكرية.
من هنا، آمن غالبية إن لم يكن كل رؤساء أميركا بما قاله مفكر آل ميدتشي ذات مرة من أنه: "ينبغي أن تكون الحرب دراسة الأمير الوحيدة، فهو ينبغي أن يفكر في السلام باعتباره وقتًا لالتقاط الأنفاس فحسب، وهو ما يتيح له التروي لوضع الخطط العسكرية، ويوفر القدرة على تنفيذها".
هل تتواري المثالية، وتفتح الطريق للواقعية، خلف مثل هذه المفاهيم؟
غالب الظن أن هذه هي الحقيقة المجردة، والتي تتجلى في أن لكل رئيس أميركي حربه الخاصة التي يسعى لأن يثبت من خلالها فحولته العسكرية، وإن لم تكن حربًا بالمعنى الواسع، فبضع عمليات عسكرية فاعلة ومؤثرة على الأقلّ.
والشاهد أن فريدمان لم يكن فريد عصره وأوانه في الحديث عن زيف التضاد القائم في الرطانة اللغوية عن المثالية والواقعية في المنظومة السياسية الأميركية، ذلك أن مفكرًا أميركيًّا رحل منذ فترة قريبة، أظهر للعالم برمته أن القوة الناعمة الأميركية، ربما كانت مصطلحًا مخمليًّا، بأكثر منها حقيقة سياسية مجردة، لا سيما أن معارك أميركا الكبرى، وبخاصة شراكتها في الحرب العالمية الثانية، قامت على منظور القوة العسكرية الخشنة، ولم تستند إلى تأملات ماركوس أوريليوس، أو أخلاقيات أرسطوطاليس.
من هذا المنطلق، جعل المؤسسون الرئيس القائد العام للقوات المسلحة، وذلك لسبب واضح وهو أنهم قرأوا ميكيافيللي بعناية وعرفوا أنه، كما كتب "ليس هناك تجنب للحرب، فهي تؤجل فحسب لمصلحة الآخرين".
على أن علامة الاستفهام الرئيسة في هذه السطور: "هل كل رئيس أميركي قائد بالضرورة، وهل كل قائد عسكري، من الحصافة بمكانة للتمييز بين متى يقدم ومتى يحجم على خوض الحرب التي تمثل الواقعية لا المثالية؟".
الذين لديهم علم من كتاب الموازنة العسكرية للولايات المتحدة الأميركية للعام الجاري، والتي تقارب التريليون دولار، يقطعون بأن أعظم فضيلة يمكن أن تكون لدى الرئيس هي أن يفهم القوة، فالرؤساء ليسوا فلاسفة، وممارسة القوة فنٌّ تطبيقي وليس مجردًا.
يؤمن رؤساء أميركا بمبدأ الإمبراطور هادريان، الذي استعاره أحد سكان البيت الأبيض ونسبه لنفسه "روزفلت"، تكلم بهدوء واحمل عصا غليظة، ومن هذا المنطلق يمكن القطع بأن لكل رئيس أميركي حربه الخاصة التي يحرص على أن يخوضها لإثبات فحولته العسكرية إن جاز التعبير، وحتى يتسنى له أن يكتب اسمه في سجل القياصرة الأميركيين، لا سيما الآباء المؤسسين الذين آمنوا طويلاً جدًّا بأن القوة العسكرية هي الحل الوحيد الذي يمكن من خلاله لتلك الجمهورية الناشئة، أن تتمدد من أقصى الشرق عند ساحل المحيط الأطلسي، إلى الجانب الغربي من الولايات المتحدة أي على ساحل المحيط الهادئ، حتى وإن كلف الأمر التخلص من ملايين القتلى.
تبدو إشكالية غزة والقضية الفلسطينية اليوم، كاشفة بعمق لمدى الشرخ الحادث في المؤسسة السياسية الأميركية، ذلك أن هناك الكثير من أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة من يؤمنون بأن على واشنطن أن تظل باقية على عهدها في دعم إسرائيل، والنظر إليها من منظور دوغمائي مجرد.
غير أنه حديثًا وعلى الجانب الآخر، هناك صحوة لدى الكثيرين ترى أن هذا الدعم إنما ينتقص كثيرًا جدًّا من مصداقية أميركا في عيون العالم برمته، وليس عند العرب أو المسلمين فقط.
ولعل أزمة المجاعة الأخيرة في غزة، والمشاهد التي عرضتها شاشات التلفزة ولم توفر عرضها وسائط التواصل الاجتماعي، تثبت وبما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك ملايين من الأميركيين يرون أنه حان الوقت لأن تعود أميركا إلى عالم الواقعية، وأن ترى من خلال الحقائق ما يغيب عنها بسبب التوجهات العاطفية أو الروحية المنحولة.
يقول البعض إنه لا مكان في ثنايا وحنايا الإمبراطورية الأميركية لـ"الموعظة على الجبل"... الماضي الأخلاقي المثالي لأرسطو، والسطوة والهيبة لـ"لورنزو دي ميدتشي".
غير أن هذا لا يعني أن البحث عن العصر الذهبي لأميركا، وضمن الكثير من المعطيات اللازمة للوصول إلى تلك المرحلة من التاريخ، يستدعي تضحيات كثيرة تجعل أميركا قادرة على ضبط ميزان انتباهها ما بين الواقعية والمثالية هذا إذا أرادت وعن حق الحفاظ على مستقبل الإمبراطورية.