دخل العالم، وتحديداً الشرق الأوسط، في عصر الانتقال من منطق الدويلة إلى منطق الدولة. هذا ما يحصل في لبنان وسوريا وفلسطين. لكنّ السؤال: هل يمتلك المثقّفون والإعلاميّون العرب جرأة دخول هذا الانتقال؟
كان استقبال الجديد في مجال السياسات الوطنيّة والعلاقات الدوليّة متعذّراً أو شديد الصعوبة، وقد حاولته الدول الوطنيّة في مواجهة التطرّف وفي مواجهة التنظيمات المسلّحة التي كانت تخرّب في الدول وفي العلاقات الدوليّة.
ظهرت عندنا فرصة في سورية، وبعد جهود عربيّة جبّارة في قضيّة فلسطين. صار الأمر في استقبال الجديد لدى الدول الوطنيّة في الاستقرار وسياسات النموّ الكبرى، وفي المساعدة على التخلّص من الميليشيات التي تدّعي التحرير وتدمّر الأخضر واليابس. فعسى أن يكون هذا الأمل سريع التحقّق، فقد طال على معاناتنا الأمد.
يرتكز الحدث في المنطقة بل وما وراءها على وقف الحرب على غزّة من أجل ترتيبات إطلاق سراح أو تبادل الأسرى. ولن تستمرّ هذه المرحلة أكثر من أسبوع لتبدأ بعدها تحدّيات اليوم التالي أو الثاني، وهي التي تتعلّق بترتيبات الإدارة بعد “حماس”. ونحن نتحدّث عن الإدارة لأنّ السيادة محسومة لأميركا وإسرائيل. ولذلك عندما نتحدّث عن إمكانات استقبال الجديد فنحن نقصد أمرين: الشجاعة في وقف النار بالفعل، وهو تحدٍّ على إسرائيل أكثر من “حماس”. فقد عوّدتنا حكومة اليمين برؤوسها الثلاثة أو الأربعة في السنتين الماضيتين أن لا وقف للنار بل لا بدّ من حربٍ دائمةٍ تؤدّي إلى هجرة الغزّيّين والاستيلاء على الضفّة وإنهاء القضيّة الفلسطينيّة.
يرتكز الحدث في المنطقة بل وما وراءها على وقف الحرب على غزّة من أجل ترتيبات إطلاق سراح أو تبادل الأسرى
الرّياض تُصوّب الجنوح الأميركيّ
هي أهدافٌ لا يصدّق أحد إمكان تحقّقها على الرغم من الدعم الظاهر من جانب الرئيس ترامب لهذه الخطّة طوال ما يقارب سنة ونصف سنة. لا أحد يعرف الاستحالة أكثر من نتنياهو صاحب التجربة الطويلة. لكنّه هو وزملاءه في اليمين المتطرّف يهمّهم البقاء في السلطة بقدر ما يسمح به الوضع والدعم الأميركيّ. لكنّ الجيش تعب تعباً شديداً على الرغم من أنّه جيش عالي الكفاءة والانتظام المؤسّسي. وإلى هذا الاعتبار المهمّ الذي عبّر عنه عدد من الجنرالات الحاليين والسابقين، وفقد بعضهم منصبه بسبب ذلك، هناك التحدّي الدولي بل والعالمي الذي ما عاد قاصراً على الأمم المتّحدة ومفوّضيّاتها وجهات الدعم الإنسانيّ، بل صارت له حياة خاصّة في كلّ شوارع مدن العالم.
استندت الدول العربية، وبخاصّة المملكة العربية السعودية، إلى هذا التغيّر في ضغوطها من أجل وقف الحرب وإقامة حلّ الدولتين. فلم تؤثّر في الرأي العامّ العالميّ فقط، بل وأثّرت في الموقف الأميركي المتغيّر: الأولويّة لوقف النار والتخلّي عن حكايات التهجير والريفييرا وضمّ الضفّة والتفكير في مستقبلٍ للسلام بالمنطقة يكون الدخول إليه من مدخل القضيّة الفلسطينيّة. وحتّى الآن لم يتحدّث الأميركيّون بوضوح عن حلّ الدولتين، لكنّ البنود في مشروع العشرين نقطة تشير إلى ذلك.
يتعلّق الأمر الآخر بـ”حماس”، وعندها تحدٍّ في وقف النار! انهزمت من قُرابة عام هزيمةً مؤكّدة. لكن يكون عليها التكفير الآن ليس بوقف النار مثل الحروب السابقة، بل بمستقبل الحركة كلّه. من المؤكّد أن تفقد السلطة وتتجرّد من السلاح. وإذا كان عليها التفكير في المشروع ففي عُهدة الأبناء والأحفاد. وعندما يعود الأحفاد الذين عاشوا أهوال الحرب للتفكير في ما كان ويكون، قد تكون ظروفهم أفضل، لأنّ الدولة ربّما تكون قد قامت فلا يضطرّون إلى القتال من أجل ذلك.
إنّما التحدّي الآن هو في عهدة الآباء والأجداد، فهل يستطيعون استيعاب الدروس وتثميرها لمصلحة شعبهم بالهدوء التامّ والانخراط في النضال من أجل الدولة؟ الأرجح أن لا يستطيعوا ذلك ولا يقوموا به كما لم تقُم به إيران بعد الضربات. ولذلك سيقع بل وقع التحدّي على العرب لفرض التهدئة وإعادة الإعمار وترتيبات قيام الدولة.
هي قرابة الأربعين عاماً منذ خرجت مصر الدولة من الحرب. ولجأت دول المحور أو أُلجئت إلى الميليشيات المسلّحة للتحرير(!). وبتدخّل إيران ما عاد الأمر قصراً على الفصائل الفلسطينيّة بل دخلت على الخطّ ميليشيات من لبنان والعراق واليمن وسورية.. وأفغانستان وباكستان، وكلّ ذلك بمساعي إيران وعملها! تجد الدولة العربية نفسها الآن في قلب المعمعة، معمعة السلام التي استبدلت بها معارك الميليشيات التي خرّبت البلدان وراحت تتبارى مع إسرائيل في من يدمِّر أكثر!
تنتظرنا مصاعب جمّة للخلاص من الميليشيات التي سيطرت على مدى أربعة عقود، وبقدر ما تصعب إزاحة الميليشيات، هناك صعوبات العودة إلى دولة المؤسّسات والسلم والعيش المشترك
مصاعب جمّة
دخل العالم كلّه اليوم في مسار إقامة الدولة الفلسطينيّة. وقد لا ينتبه كثيرون إلى أنّ وضع الفلسطينيّين اليوم يشبه وضع الصهاينة الذين كانوا يؤسّسون الدولة الإسرائيليّة بين عامَي 1941 و1949. فقد كانت المظالم النازلة باليهود وقتها هي شغل العالم الشاغل، كما صارت المظالم النازلة بالشعب الفلسطيني هي شغل العالم الشاغل. فالعالم ومنه أوروبا يرون أنّ هذا القمع المستمرّ مناقض لكلّ منجزات الحركة الإنسانية، كما هو مناقض لقرارات الأمم المتّحدة. في حين تتوجّه أميركا وإن ببطء إلى الاعتراف بأن لا استقرار بدون حلّ القضيّة، سواء على مستوى ملايين الشعب الفلسطينيّ، أو على مستوى الدول العربية والإسلاميّة.
لذلك الجديد وإن كان تحقّقه صعباً جدّاً لكنّه صار ضرورة حياة إن لم يكن ضرورة وجود، وأوّل شروطه التخلّص من الميليشيات والذهاب باتّجاه الدولة المدعومة من كلّ العالم تقريباً.
الخروج من الميليشيا إلى الدولة هو المسار الذي يبدأ في فلسطين، فماذا يحصل أو سيحصل في بلدان الميليشيات الأخرى؟
“الحزب” يحذّر الدول العربية أن لا تضغط على “حماس” لتسهيل الحلّ! وعلاوة على سوء النصيحة فهي تدلّ على سوء التقدير. إذ لا خلاص للمنطقة وشعوبها إلّا بالخروج إلى الدولة وإزالة العقليّات والممارسات الميليشياويّة بكلّ سبيل! ما تزال عقليّة الميليشيا وممارساتها متجذّرة إذاً لدى ميليشيات إيران وعلى رأسها “الحزب”. وهذا هو النهج، نهج الدولة، الذي ينبغي سلوكه لتستقيم أمور الدولة المدنيّة النامية التي بدأ مسارها الواعد في سورية إلى جانب فلسطين.
نعم، تنتظرنا مصاعب جمّة للخلاص من الميليشيات التي سيطرت على مدى أربعة عقود، وبقدر ما تصعب إزاحة الميليشيات، هناك صعوبات العودة إلى دولة المؤسّسات والسلم والعيش المشترك.
إقرأ أيضاً: الخوف على لبنان… والخوف من “الحزب”؟
أهل الميليشيات ما يزالون شديدي التحمّس لاستغلالاتهم وتاريخهم الأسود. العقلاء ورجالات الدولة ما يزالون الأقلّ حماسةً بسبب شتّى المخاوف التي استعبدت الكثيرين منهم!
لقد جرؤت دول النهوض العربي في التنمية وفي فلسطين، فهل ينضمّ إليها المثقّفون والإعلاميّون لمزيد من الشجاعة في استقبال الجديد؟!