بقلم: دكتور زاهي حواس
اختار المهندس المعمارى حم إيونو والملك خوفو هضبة الجيزة لتكون مقرًا لمجموعته الهرمية، والتى ستخلّد اسمه فى تاريخ البشرية باعتبار أن الهرم الأكبر هو أقدم مبنى حجرى على الأرض تتوافر فيه كل درجات الإتقان الهندسى والمعمارى، التى وبكل مقاييس علومنا الحديثة لا يمكن تشييد بناء مثل الهرم الأكبر! كان من المعروف فى كتب التاريخ التى كنا ندرسها أن الملك خوفو حكم 24 عامًا طبقًا لبردية تورين، ولكن من خلال دراسة بردية وادى الجرف المكتشفة حديثًا ثبت أنه حكم ٢٨ عامًا. وكان اسمه خنوم خو إف وى (الإله خنوم يحرسنى أو يحمينى)، والاسم المختصر هو خوفو.
لقد صوّر الفراعنة الإله خنوم على هيئة كبش، وكان مركز عبادته أسوان، وهو حامى الحدود الجنوبية لمصر، وهو أيضًا أحد أرباب الخصوبة الذى يشكّل هيئة المولود الجديد من الطين على عجلة الفخّار.
تقلّد خوفو الألقاب الملكية بعد أن صار ملكًا على مصر خلفًا لأبيه الملك سنفرو. فحمل اللقب الحورى الذى يربطه بالإله الصقر حورس، واللقب النبتى بمعنى المنتمى إلى السيدتين، وهما الإلهة نخبت ربّة مصر العليا، والربّة وادجت ربّة مصر السفلى. أمّا لقبه النيسوت بيتى فيعنى المنتمى إلى نبات السوت رمز الصعيد، والنحلة بييت رمز الدلتا، ويُقرأ اللقب بـ «ملك مصر العليا والسفلى».
أمّا إذا نظرنا إلى أسباب اختيار هضبة الجيزة مكانًا لبناء الهرم وما حوله من منشآت من معابد وأسوار وأهرامات جانبية وحفر مراكب، فسنتأكد عندها أن المصريين القدماء هم من وضعوا وأسسوا قواعد ومبادئ علم جيولوجيا الأرض. لقد قاموا بدراسة صخر الهضبة بعناية ودقة، وتأكدوا من توافر الحجر الجيرى المحلى الجيد، والذى يمكن قطعه بأحجام ومقاسات مختلفة، وكذلك يسهل نقله من المحجر إلى موضعه فى البناء.
ما إن جلس الملك العظيم خوفو على عرش مصر حتى أمر بالانتقال إلى قصر الحكم الجديد الذى شيّده فى الجيزة لكى يكون بالقرب من موقع الهرم الذى سيدفن به. وأصبح اسم المدينة الجديدة التى تحوى قصر الحكم «عنخ خوفو» بمعنى «خوفو يعيش» أو «خوفو حى». وقد كلف خوفو ابن عمه المهندس المعمارى حم إيونو بمهمة تشييد الهرم. وقد حمل حم إيونو لقب «المشرف على جميع أعمال الملك»، وكان هذا اللقب يعنى أنه الرجل الثانى بعد الملك. ولنا أن نتصور أن المهندس الشاب قد عكف على وضع الرسومات الخاصة بالهرم والتصميم الداخلى، وكذلك المنشآت التى تجاور الهرم من معابد وأهرامات جانبية لزوجات الملك.
ووقع بالفعل الاختيار على الناحية الشمالية لهضبة الجيزة كموقع بناء الهرم. وضعت الرسومات على ورق البردى، وربما قام حم إيونو بتنفيذ ماكيت صغير للمجموعة الهرمية تُظهر التصاميم الداخلية للهرم من ممرات وحجرات الدفن. وبالفعل تم العثور على نموذج لحجرات الملك داخل أحد أهرامات دهشور التى تعود إلى الأسرة الثانية عشرة.
أما أهم خطوة قام بها المهندس الشاب فكانت تمهيد الموقع وتحديد قاعدة الهرم وجوانبه الأربعة بزاوية ميل نحو درجة واحدة طبقًا لقواعد فلكية عالية الدقة. وقدّم بعض الباحثين المقترحات حول شكل وماهية الأدوات التى ربما تكون قد استُخدمت فى بناء الهرم، منها مثلًا قيام المهندسين القدماء ببناء جدار دائرى من الطوب اللبن يرتفع حتى مستوى نظر المرء ويُترك مكشوفًا دون سقف، ويقف فى منتصفه شخص ما، وعلى قمة الجدار يقوم بتحديد المستوى مستخدمًا قناة من المياه، منتظرًا صعود نجم بالتحديد فى السماء. وعندما يصعد النجم فى الأفق فى الظلام وعند الشروق، وباستخدام آلة قياس تُسمّى فى مصر القديمة «مرخيت»، يتم وضع العلامات على الأرض، ويتم رسم خطوط تربط تلك النقاط بمنتصف الدائرة المحددة وبالجدران. ومع تقسيم الزاوية الظاهرة من خلال خطين استطاع المصريون القدماء معرفة درجات الميل الحقيقى.
وهناك رأى آخر يشرح سبب بناء هرم خوفو تجاه الشمال الحقيقى عكس الأهرامات الأخرى. ونحن نعرف أن الفراعنة اهتموا بالنجوم القطبية التى يطلق عليها «الخالدة»، والتى سيلحق بها الملك بعد موته طبقًا لما ورد فى نصوص الأهرام. وفى عام 2476 ق.م التفّ معًا نجمان قطبيان حول القطب الشمالى، وتم رسم خط بينهما، والذى كان متقاطعًا نحو الشمال. ومن أجل الوصول إلى الشمال الحقيقى تم استخدام آلة قياس فى الوقت المناسب من الليل، وذلك عندما تقع النجوم الواحدة تلو الأخرى، ومع تحديد نقاط متعددة على الأرض يُرسم خط لتحديد الشمال الحقيقى. ويمكن للعلماء بحسابات فلكية معقدة تتبع الأماكن القديمة لتلك النجوم التى تغيّرت طبقًا لميل محور الأرض.
الأمر المثير بالفعل بالنسبة لهرم الملك خوفو هو أن كل تفصيلة من تفصيلات البناء لا تزال لغزًا محيّرًا، وكأننا، وبعد ما يقرب من قرنين من الزمان على بداية علم المصريات، لا زلنا نحتاج إلى آلة السفر عبر الأزمان لكى نعود إلى تلك السنوات المعجزة ونقابل حم إيونو ونشاهد بأعيننا كيف تم بناء هرم الملك خوفو. ونستكمل الحديث عن الهرم فى الأسابيع القادمة بإذن الله تعالى.