هل يمكن وجود شيء اسمه «الحِياد المُطلق» خارج ميدان الرياضيات وأشباه الرياضيات من العلوم البحتة؟!
بصورة أكثر تحديداً، هل يمكن وجود الحِياد، ناهيك من أن يكون مُطلقاً، في السياسة والإعلام؟!
هذا ما يبدو أن إيلون ماسك أشهر ملياردير «مودرن» في العالم يريد إقناع الناس به، بعد أن أطلق موسوعته الإلكترونية «غروكبيديا» Grokipedia لمنافسة الموسوعة الأشهر على الإنترنت «ويكيبديا» لأن هذه الأخيرة، بحسب أخينا ماسك «متحيّزة» سياسياً وثقافياً لصالح اليسار الجديد أو أبناء ثقافة «ووك».
الموسوعة التي أطلقها ماسك، الاثنين الماضي، تعرّضت لعطلٍ مؤقت بعد دقائق من إطلاقه، نتيجة الضغط الكبير على الخوادم، قبل أن يعود إلى العمل لاحقاً، حسبما أفادت تقارير أميركية.
بحسب الصفحة الرئيسية، للموسوعة الماسكية الجديدة، تجاوز عدد المقالات المنشورة نحو 885 ألف مادة عند الإطلاق، وهو رقم طموح بالنسبة لمشروع ناشئ مقارنةً بملايين المقالات في «ويكيبيديا»... كما ذُكر في تقريرٍ لـ«العربية».
وكان ماسك أوضح سابقاً أن مشروعه يهدف إلى «تأسيس موسوعة خالية من الدعاية»، عكس موسوعة «ويكيبديا» التي حرّف ماسك اسمها إلى Wokipedia في إشارة إلى تيّار «ووك كلتشر» أو الموجة الليبرالية الجديدة.
إنشاء محتوى موسوعي يعتمد على الذكاء الاصطناعي وحده - كما جاء في التقرير السابق - قد يؤدي إلى أخطاء أو اقتباسات غير موثقة من «ويكيبيديا» نفسها!
كما أنّ سعي ماسك إلى تقديم بديل أكثر «موضوعية»، في رأي بعض النقاد، لن يجعل مشروعه هذا بعيداً عن إنتاج تحيّزات، ماسك وفريقه وشركته، نفسها، لكن بوجه رقمي أكثر بريقاً! ويُمسي الأمر انتقالاً من تحيّز إلى تحيّز، بينهما ذكاءٌ اصطناعي!
فضلاً عن أنّ حقوق النشر والرقابة المعلوماتية ستشكّل عوائق أمام توسّع المشروع مستقبلاً، وغير ذلك من المصاعب، غير أن كل ذلك لا ينفي المدى البعيد الذي ستصل له موسوعة ماسك المنافسة لـ«ويكبيديا»، كما أن الصعوبات العارضة للمشروع هذا، ليست خاصّة به (الحقوق الفكرية، دقّة المعلومات، اغتراف برامج الذكاء الاصطناعي من مصادر مفتوحة غير محوكمة... إلخ).
يهمّني هنا التنبيه على مسألة «أكذوبة» الحِياد هذه، إذ إنّها مثل العنقاء، والأمر الآخر، هو: أين نحن العرب من سباق السيطرة على المحتوى «العربي» على الأقلّ، أو محاولة التأثير فيه، إذا تواضعنا أكثر؟.
وحين أقول بناء المحتوى، فلستُ أعني المحتوى الدعائي الزاعق، بل المحتوى الجادّ الصبور المصنوع بعلمٍ وطول نفَس، ورغبة في تيسير العلم للناس... كل الناس؟!
الذكاء الاصطناعي هو فم يأكل من الطعام المعروض عليه، فأين معروضنا؟! علماً أن فم الذكاء الاصطناعي لا يشبع، ولسان حاله: هل من مزيد؟!
كل ما هو منشورٌ على منصّة مثل «إكس» أو جلّه، هو هواء، والفم لا يأكل الهواء...
نعم نسيت التذكير كرّة ثانية: لا يُوجد حِياد لا مطلق ولا غير مطلق، في الإعلام والثقافة، خاصّة مع الذكاء الاصطناعي، فليس هو المهدي المُخلّص.