مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب 46

مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (46)

مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (46)

 العرب اليوم -

مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب 46

بقلم - تركي الدخيل

وَمَا زِلنَا نَعرِضُ أَعجَازَ أَبيَات شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فقد أَقَرَّ المُحِبُّ والمُبغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ إِرْسَالَ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ...

(133) مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
وَهَذَا الشَّطْرُ مِنْ بَيْتِ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، أَوْرَدَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ، ضِمْنَ اخْتِيَارَاتِهِ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي، فِي كِتَابِهِ: (الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي).
وَالْبَيْتُ كَامِلاً هُوَ:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الْهَوَانُ عَلَيْهِ * مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
وَذَكَرَ الْبَيْتَ أَبُو مَنْصُورِ الثَّعَالِبِيُّ فِي (يَتِيمَةِ الدَّهْرِ) ضِمْنَ مَحَاسِنِ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي (وَمِنْهَا إِرْسَالُ الْمَثَلَيْنِ فِي مِصْرَاعَيْ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ).
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي شَطْرِهِ الْأَوَّلِ (الصَّدْرِ) مَثَلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَفِي شَطْرِهِ الثَّانِي (الْعَجُزِ) مَثَلٌ ثَانٍ مُسْتَقِلٌّ أَيْضاً.
وَمَثَلُ الشَّطْرِ الثَّانِي، هُوَ الشَّطْرُ كُلُّهُ:
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
إِنَّ مُصِيبَةَ الْمَوْتِ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ وَأَفْدَحُهَا، وَإِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ، فَإِنَّ عِظَمَ شَأْنِهِ، لَا يَجْعَلُ غَيْرَهُ مِنَ الْآلَامِ وَالْجِرَاحَاتِ تُؤَثِّرُ فِيْ الْمَيِّتِ.
وَالْمُتَقَرَّرُ أَنَّ الْجَسَدَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الرُّوحُ، لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُؤْلِمُهُ شَيْءٌ بِتَاتاً. وَالْإِحْسَاسُ وَالْأَلَمُ، مُرْتَبِطَانِ بِالرُّوحِ، لَا بِالْجَسَدِ، وَإِنْ كَانَ مَكَانُ وُقُوعِ الْأَلَمِ هُوَ الْجَسَدُ.
وَخُرُوجُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ هُوَ إِعْلَانُ الْمَوْتِ، وَوُقُوعُ الْوَفَاةِ، وَبَعْدَهَا لَا تُؤَثِّرُ الْجِرَاحُ -مَهْمَا عَظُمَتْ- فِي الْمَيِّتِ، وَلَا تُؤْلِمُهُ، فَالْأَلَمُ مُرْتَبِطٌ بِالرُّوحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُتَنَبِّي فِي عَجُزِ هَذَا الْبَيْتِ:
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
عَلَى أَنَّ عَدَمَ إِحْسَاسِ الْمَيِّتِ بِالْأَلَمِ، لَا يُبِيحُ بِحَالٍ الْإِسَاءَةَ إِلَى جَسَدِهِ، فَإِنَّ لَهُ حُرْمَةً مَحْفُوظَةً، وَحُرْمَتُهُ فِي مَوْتِهِ مِثْلُ حُرْمَتِهِ فِي حَيَاتِهِ.
وَمَا يَجْرِي فِي الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ، مِنْ عَدَمِ إِيلَامِ الْجُرْحِ بِالْمَيِّتِ، يَنْطَبِقُ عَلَى الْمَوْتِ الْجُزْئِيِّ، كَمَوْتِ الشُّعُورِ وَالْمَشَاعِرِ، وَمَوْتِ الْأَحَاسِيسِ، وَمَوْتِ الْقَلْبِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا، وَنَسْأَلُ اللهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ.
فَجُرْحُ الْمَشَاعِرِ لَا يُؤْلِمُ مَيِّتَ الْمَشَاعِرِ وَالشُّعُورِ، وَهَكَذَا جُرْحُ الْأَحَاسِيسِ لَا يَتْرُكُ ذَرَّةَ أَلَمٍ فِي مَيِّتِ الْأَحَاسِيسِ، وَمَيِّتُ الْقَلْبِ لَا يَتَأَلَّمُ لِجُرُوحِ الْقَلْبِ وَإِصَابَاتِهِ، وَالْحَدِيثُ عَنِ الْقَلْبِ هُنَا، بِاعْتِبَارِهِ مُضْغَةً فِي الْجَسَدِ، إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، كَمَا فِي الْأَثَرِ النَّبَوِيِّ.
عِنْدَمَا حَاصَرَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، عَبْدَاللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، ذَهَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أُمِّهِ، ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَبَثَّ إِلَيْهَا هَمَّهُ، وَقَالَ لَهَا: أَخْشَى إِنْ قُتِلْتُ، أَنْ يُمَثِّلُوا بِي، وَيَصْلِبُونِي، يَا أُمَّاهُ!
فَقَالَتْ لَهُ:
يَا بُنَيَّ: إِنَّ الشَّاةَ لَا يَضُرُّهَا سَلْخُهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا!
وَقُتِلَ عَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَمَا تَوَقَّعَ، صَلَبَهُ الْحَجَّاجُ، أَمَّا أُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَدْ تَجَاوَزَ عُمْرُهَا آنَذَاكَ الْمِائَةَ، وَفَقَدَتْ بَصَرَهَا، فَكَانَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: «أَلَا مَنْ مُبَلِّغُ الْحَجَّاجِ أَنَّ الْمُثْلَةَ سُبَّةٌ لِلْحَيِّ وَمَا تَضُرُّ الْمَيِّتَ؟ أَلَا مَنْ يُبَلِّغُ الْحَجَّاجَ عَنِّي أَنَّ الشَّاةَ إِذَا ذُبِحَتْ لَمْ تَأْلَمِ السَّلْخَ؟».
تَقْصِدُ بِالْمُثْلَةِ: التَّمْثِيلَ بِالْمَيِّتِ بِصَلْبِهِ، وَهُوَ سُبَّةٌ لِلْحَيِّ، الَّذِي أَمَرَ بِهَذِهِ الْمُثْلَةِ، لِأَنَّهُ خَالَفَ الْأَمْرَ بِإِكْرَامِ الْمَيِّتِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْإِسَاءَةِ لَهُ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيّاً. وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ لَا تَضُرُّ هَذِهِ الْمُثْلَةُ بِالْمَيِّتِ، فَإِنَّ الْجَسَدَ بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ.
قَالَ أَرِسْطُو: النَّفْسُ الذَّلِيلَةُ لَا تَجِدُ أَلَمَ الْهَوَانِ، وَالنَّفْسُ الشَّرِيفَةُ يُؤَثِّرُ فِيهَا يَسِيرُ الْكَلَامِ.
وَانْتَشَرَ شَطْرُ بَيْتِ أَبِي الطَّيِّبِ انْتِشَارَ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ، وَبَلَغَ الْآفَاقَ، وَبَاتَ اسْتِخْدَامُهُ شَاهِدًا وَمَثَلًا شَائِعًا فِي الْخُطَبِ، وَالرَّسَائِلِ، وَالْكُتُبِ، وفِي الْفُنُونِ كُلِّهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ كَثِيراً مَا اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الْمُتَنَبِّي: 
«مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ»
أَحْصَيْتُ مِنْهَا 14 مَرَّةً، فِي الْكُتُبِ التَّالِيَةِ:
-    الْوَابِلُ الصَّيِّبُ، مَرَّةً وَاحِدَةً.
-    الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ، مَرَّتَيْنِ.
-    الدَّاءُ وَالدَّوَاءُ، مَرَّتَيْنِ.
-    مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ، مَرَّةً وَاحِدَةً.
-    مَدَارِجُ السَّالِكِينَ، مَرَّتَيْنِ.
-    إِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ، مَرَّتَيْنِ.
-    طَرِيقُ الْهِجْرَتَيْنِ، مَرَّةً وَاحِدَةً.
-    زَادُ الْمَعَادِ، مَرَّتَيْنِ.
-    التَّفْسِيرُ الْقَيِّمُ، مَرَّةً وَاحِدَةً. 

arabstoday

GMT 18:15 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

الجامعات الأوروبية.. هل انتهى الاستشراق؟!

GMT 18:10 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

خطأ أى مسيحى لا يسىء للمسيحية

GMT 18:09 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

الفروسية من أجمل المسابقات الرياضية

GMT 18:07 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

علاقة خاصة بالبيتزا الإيطالية

GMT 09:34 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

هل يمتلك الغَزّيون قرار الاستسلام ؟!

GMT 09:17 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

لماذا فاز البلشى فى نقابة الصحفيين؟

GMT 09:14 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

الأديان.. والقضية الفلسطينية

GMT 02:44 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

من غرينلاند إلى دبي

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب 46 مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب 46



أمينة خليل تتألق في الأبيض بإطلالات عصرية ولمسات أنثوية

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 12:17 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

شريف منير يوضح أسباب غيابه عن الساحة الفنية
 العرب اليوم - شريف منير يوضح أسباب غيابه عن الساحة الفنية

GMT 02:13 2025 الثلاثاء ,06 أيار / مايو

الحرب اللامرئية

GMT 05:50 2025 السبت ,03 أيار / مايو

حل أزمة مسلسل أحمد رزق وعرضه قريباً

GMT 00:44 2025 الإثنين ,05 أيار / مايو

اعتقال قيادي بـداعش في ريف دير الزور
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab