أَيَكُونُ التَّصْغِيرُ تَعْظِيماً

أَيَكُونُ التَّصْغِيرُ تَعْظِيماً؟!

أَيَكُونُ التَّصْغِيرُ تَعْظِيماً؟!

 العرب اليوم -

أَيَكُونُ التَّصْغِيرُ تَعْظِيماً

بقلم : تركي الدخيل

مِنَ الْأَبْيَاتِ الشِّعْرِيَّةِ الَّتِي أَثَارَتْ نِقَاشَاتٍ مُسْتَفِيضَةً، وَحِوَارَاتٍ مُمْتَدَّةً، وَآرَاءً مُتَبَايِنَةً، قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الْأَنَامِلُ

وَالْبَيْتُ لِلَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيِّ، الصَّحَابِيِّ الْمُخَضْرَمِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِنْ قَصِيدَةٍ يَرْثِي بِهَا النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ. وَلَهُ بَيتٌ آخَرُ ذكرَ فِيهِ النَّاسَ وَهوَ قَولُهُ:

وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ

وَالمُرَادُ بِقَولِ الشَّاعِرِ (أُنَاسٌ): أَي النَّاس، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، مِثْلَ: قَوْمٍ، وَرَهْطٍ.

وقيل فِي اشْتقَاقِ (النَّاسِ)، ثَلَاثةُ أقْوَالٍ، هِيَ:

1- مِن الأُنْس، لأَنَّهُ أَنِسَ بـ(حَوَّاء)، وقيلَ: بَل أَنِسَ بـ(رَبِّهِ)، ومنه قَولُ ذِيْ جَدَنٍ الحِمْيَرِيّ:

إِنَّ المَنَايَا يَطَّلِعْـ ـنَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا

2- أنَّ أصْلَهُ «نَوَسَ»، وَهُوَ الحَرَكَةُ.

3- أنَّ أَصْلَهُ «نَسِيَ»، وَمِنهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَإِنْ نَسِيْتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفَةً فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ

وَ«سَوْفَ» فِي بَيتِ القَصِيْدِ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّأْكِيدِ.

وَ«دُوَيْهِيَةٌ» تَصْغِيرُ دَاهِيَةٍ، وَهِيَ الْمُصِيبَةُ، يَعْنِي بِهَا هُنَا الْمَوْتَ. وَالدَّاهِيَةُ تُقَالُ لِلمُذَّكَرِ والمُؤَّنَثِ، وَيُسَمَّى بِهَا الخَيرُ والشَّرُ جَمِيْعاً.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: «فَصَغَّرَ الدَّاهِيَةَ مُعَظِّماً لَهَا لَا مُحَقِّراً لِشَأْنِهَا».

وَأَرَادَ بـِ«الأَنَامِل»: الْأَظْفَار، فَإِنَّ صُفْرَتَهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَوْتِ.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي «كِتَابِ الشِّعْرِ»: «فَاصْفِرَارُ الْأَنَامِلِ يَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الدَّوَاهِي؛ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْقِيرَ قَدْ يُعْنَى بِهِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ».

وَخِلَافاً لِمَا سَبَقَ، قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ: «وَالْبَصْرِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ لَا يَرَوْنَ تَصْغِيرَ الشَّيْءِ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ قَوْلَ لَبِيدٍ: (دُوَيْهِيَةٌ)، وَهُوَ يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَصَغَّرَهَا؛ إِذْ كَانَ الْمَوْتُ لَا يُرَى، فَكَأَنَّهُ خَفِيَ إِذْ كَانَ الْعَيَانُ لَا يُدْرِكُهُ».

وَلِذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ يَعِيشَ: «فَالْمُرَادُ أَنَّ أَصْغَرَ الْأَشْيَاءِ قَدْ يُفْسِدُ الْأُصُولَ الْعِظَامَ».

وَذَهَبَ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْقَوْلَ بِأَنَّ تَصْغِيرَ «دُوَيْهِيَةٍ» لِلتَّعْظِيمِ، إِلَى أَنَّ تَصْغِيرَهَا لِلتَّحْقِيْرِ، عَلَى حَسَبِ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهَا، وَتَهَاوُنِهِمْ بِهَا، أَيْ يَجِيئُهُمْ مَا يَحْتَقِرُونَهُ مَعَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي نَفْسِهِ، تَصْفَرُّ مِنْهُ الْأَنَامِلُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:

فُوَيْقَ جُبَيْلٍ سَامِقِ الرَّأْسِ لَمْ تَكُنْ لِتَبْلُغَهُ حَتَّى تَكِلَّ وَتَعْمَلَا

«وَرُدَّ بِتَجْوِيزِ كَوْنِ الْمُرَادِ دَقَّةَ الْجَبَلِ وَإِنْ كَانَ طَوِيلاً، وَإِذَا كَانَ كَذَا فَهُوَ أَشَدُّ لِصَعُودِهِ».

قَالَ ابْنُ سِنَانَ الْخَفَاجِيُّ فِي «سِرّ الفَصَاحَة»: «حُكِيَ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدَ كَانَ يُنْكِرُهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّ التَّصْغِيرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَدْخُلْ إِلَّا لِنَفْيِ التَّعْظِيمِ، وَيَتَأَوَّلُ (دُوَيْهِيَة) بِأَنَّهُ أَرَادَ خَفَاءَهَا فِي الدُّخُولِ، وَهُوَ ضِدُّ التَّعْظِيمِ الْمَذْكُورِ».

وبَيْتُ لَبِيدٍ هذَا قَبْله بَيْتٌ أَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ...)»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وفي رواية مسلم: «أَشْعَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَمَت بِهَا العَرَبُ، كَلِمَةُ لَبِيْدٍ: ...».

والبيتُ كاملاً:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ وَكُلُّ نَعِيْمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ

يَظَلُّ بَيْتُ لَبِيدٍ دَلِيْلَ عَبْقَرِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، حَيْثُ يَتَحَوَّلُ التَّصْغِيرُ إِلَى تَعْظِيمٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ: تَصْغِيرٌ وَتَعْظِيمٌ، فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، إِبْدَاعٌ، وَإِمْتَاعٌ، لُغَوِيٌّ، عَرَبِيٌّ.

وَلَوْ رَفَضَ الْبَصْرِيُّونَ الْقَوْلَ بِالتَّصْغِيرِ تَعْظِيماً، فَإِنَّ دَلَالَتُهُ تَتَأَكَدُّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسٍ الْمُزَنِيِّ، حِيْنَ قَالَ: «رَأَيْتُ الْأُصَيْلِعَ عُمَرَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ»، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَتَصْغِيرُ وَصْفِ عُمَرَ بِالْأُصَيْلِعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا تَعْظِيماً لِلْفَارُوقِ.

arabstoday

GMT 10:51 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المسلمان

GMT 10:48 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

من موجة ترمب إلى موجة ممداني

GMT 10:47 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة الحرب... تكنولوجيا أوكرانية مقابل أسلحة أميركية

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 10:37 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المتحف المصري الكبير

GMT 10:36 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

«تسونامي» اسمُه ممداني

GMT 10:33 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السودان... حكاية الذَّهب والحرب والمعاناة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أَيَكُونُ التَّصْغِيرُ تَعْظِيماً أَيَكُونُ التَّصْغِيرُ تَعْظِيماً



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 09:06 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عمرو دياب يوقف حفله في دبي بسبب نيللي كريم وأحمد السقا

GMT 15:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

يامال يرفض المقارنات بميسي ويركز على تحسين أداء الفريق

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 20:43 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تنفق ملايين الدولارات لتحسين صورتها في أميركا

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 05:50 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab