بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
النسخة الشائعة والمترجمة إلى العربية ولغات عدة أخرى من كتاب جون لوك الصغير المشهور «رسالة فى التسامح» لم تكن الأولى بل الثالثة. فقد سبقتها نسختان راجع لوك أولاهما فى النسخة الثانية، ثم أعاد النظر فى بعض ما تضمنته فى النسخة الثالثة التى نُسيت بعدها النسختان السابقتان. فقد راجع لوك فى النسخة الثالثة ما كان قد ذهب إليه فى النسختين السابقتين مما لا ينسجم مع أصول مبدأ التسامح وطبيعته وفق ما وصل إليه فى النهاية. ومنها مثلاً حصر الإيمان فى القلب، وحبس الضمير فى الصدر وعدم التعبير عنهما تجنبًا لإثارة خلافات يُحوَّلها التعصب إلى صراعات عنيفة وحروب. فكان الفصل بين حرية الاعتقاد وحرية التعبير على هذا النحو واضحًا فى النسختين الأولى والثانية اللتين بدا فيهما مسلَّمًا بصلاحيات مطلقة تقريبًا للسلطة المدنية، ومؤمنًا بضرورة أن يطيع الناس أوامرها وتعليماتها بغض النظر عن مدى عدالتها. ويبدو أن لوك كان مهجوسًا فى هاتين الرسالتين بالأخطار المترتبة على الخلافات الدينية والمذهبية التى نظر إليها، والحال هكذا، من ثقب إبرة ضيق فاعتقد أن كتم التعبير عن الإيمان, وليس التسامح, هو السبيل للحد من التعصب والعنف الناتج منه, الأمر الذى يتعارض مع جوهر مفهوم التسامح. فقد تصور أن التعبير عن المعتقدات يضع الناس فى مواجهة بعضهم البعض فيتقاتلون. وكان فى تصوره ذاك تغييب لمفهوم التسامح.
راجع لوك هذه الأفكار فى النسخة الثالثة من «رسالة فى التسامح»، وتبنى رؤية أوسع وأشمل للاجتماع الإنسانى فى مجمله، وليس فقط لمبدأ التسامح فى إطار تصوره للعقد الاجتماعى. وتتميز النسخة الثالثة من هذه الرسالة بأنها أرست قواعد أساسية لهذا المبدأ فى مقدمتها تقييد سلطة المؤسسات الدينية ورجالها، وتوسيع صلاحيات السلطة المدنية فى حدود لا تتعداها. ولكن أهم ما فى هذه النسخة أنها تحفل بأفكار عقلانية كما بعبارات عاطفية ألهمت أجيالاً وراء أخرى قيمة التسامح فى العلاقات بين البشر.