مأساة غزة لا تتمثل فقط في جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق أهلها، ولا تجويع وقتل أطفالها، ولا قرار حكومتها باحتلالها كاملة، إنما أيضاً وربما أساساً في غياب «أفق الحل» أو مسار بديل، حتى في حال استُبعدت «حماس» من إدارة القطاع أو سلّمت سلاحها، فإن إسرائيل لا تعِد بشيء ولا تطرح بديلاً؛ فهي لا تقبل بعودة السلطة الفلسطينية، ولا تعِد بإيقاف الحرب وإنهاء الاحتلال، وترفض «حل الدولتين»، بل ترفض أن يدير الفلسطينيون قطاع غزة عبر أي مؤسسات تمثلهم، وهذا واقع مأساوي غير مسبوق في تاريخ الحروب المعاصرة، وحتى حروب الشرق الأوسط الأخيرة.
لقد حاربت إسرائيل «حزب الله» وفككت جانباً كبيراً من قدراته العسكرية وقضت على معظم قادة الصف الأول، ولكنها كانت تعلم ويعلم معها المجتمع الدولي أن هناك بديلاً اختاره أغلب اللبنانيين، وهو «العهد الجديد»، وهناك مطلب لبناني وعربي ودولي منذ اجتياح عناصر «حزب الله» بيروت في 2008 بضرورة أن يسلم الحزب سلاحه للدولة، وينفذ «اتفاق الطائف» في 1989 بأن تسلم كل الفصائل المسلحة سلاحها.
صحيح أن العدوان الإسرائيلي على لبنان استهدف مدنيين أبرياء وهدم قرى وأحياء، ولكن العالم يعرف أن هناك مساراً بديلاً لوقف العدوان، ولم تكن الحرب من أجل القتل والتدمير فقط، إنما كان هناك مسار آخر يتمثل في وقف «حزب الله» أي هجمات على إسرائيل، وهو ما وافق عليه الحزب، وأن يلتزم بتسليم سلاحه إلى الدولة والجيش اللبناني، وهو المسار الذي لا يزال يرفضه حتى اللحظة.
يقيناً هذا المسار ليس مفروشاً بالورود ويحتاج لتدرج وحكمة شديدين في تنفيذه حتى لا يصطدم فقط بتنظيم «حزب الله»، وإنما بحاضنته الشعبية وبأحد المكونات اللبنانية الرئيسية، إلا أنه في النهاية مسار محدد الملامح يتضمن استحقاقات وتحديات واضحة مطلوباً الالتزام بها لتلافي تكرار العدوان الإسرائيلي.
وحتى في الحرب الإيرانية - الإسرائيلية لم تعلن إسرائيل أنها تنوي إبادة الشعب الإيراني أو تجويعه، وحتى شعار إسرائيل وأميركا بإسقاط النظام تراجعتا عنه بعد أن ثبتت استحالة تطبيقه بالهجوم المسلح، وتركزت أهداف الحرب في القضاء على القدرات النووية الإيرانية وإضعاف قوتها العسكرية.
وقد توقفت الحرب بعد 12 يوماً، واكتفت بإضعاف جانب من القدرات العسكرية والنووية الإيرانية من دون أن تقضي عليها بالكامل، ولم يمنع هذا الإضعاف طهران من الرد بقوة في العمق الإسرائيلي.
وقد وضع المجتمع الدولي مساراً بديلاً لضمان عدم معاودة الهجوم الإسرائيلي - الأميركي على إيران، وهو «صفر تخصيب»، وعدم السماح لها بأي أنشطة نووية، حتى لو في المجال السلمي.
صحيح أن طهران ترفض إيقاف أنشطتها النووية، وفي الوقت نفسه لم تغلق باب الحوار مع وكالة الطاقة الذرية ومع الأوروبيين والمجتمع الدولي، وسواء التزمت هذا المسار وهذه الشروط أو رفضتها، فإن أميركا وضمناً إسرائيل قدمتا مقترحات واضحة ومساراً سياسياً بديلاً، مهما كانت صعوبته، فإنه اعتُبر في النهاية «بديلاً».
إن حروب المنطقة التي استهدفت تنظيمات ودولاً كانت حليفة لحركة «حماس» وداعمة لها، حملت جميعها مسارات بديلة لما كان سائداً قبل الحرب، بصرف النظر عن قبولها أو رفضها، ونجاحها أو فشلها، أو تعديل جانب منها أو الالتزام بها كلها، إلا غزة التي أعلنت الحكومة الإسرائيلية السيطرة الكاملة عليها، وعدم تقديم أي بديل أمام الفلسطينيين لوقف الحرب. فقد رفضت حكومة نتنياهو أي تمثيل سياسي للشعب الفلسطيني، واعتبرت أنه يستحق إما التجويع أو القتل، كما رفضت سلطة «حماس» في إدارة قطاع غزة، وهو أمر مقبول فلسطينياً وعربياً ودولياً، ولكنها رفضت السلطة الفلسطينية وأي سلطة أخرى تمثل الشعب الفلسطيني، بل منعت أي نشاط إنساني لوكالة «الأونروا»، واستبدلت بها وكالات أميركية وإسرائيلية شهدنا نتائجها الكارثية على الأرض، كما رفضت إسرائيل أي حلول سياسية بشأن التسوية الدائمة والشاملة مع الفلسطينيين (الدولة الفلسطينية والقرارات الدولية ذات الصلة)، واعتبرتها نوعاً من الإملاءات الدولية، ورفضت أيضاً أي اعتراف أحادي الجانب (من أية دولة أو منظمة إقليمية أو دولية) بالدولة الفلسطينية، واعتبرت الموقف الفرنسي الأخير «هدية لـ(حماس)».
إن كارثة ما يجري في غزة ليس فقط الاحتلال والإبادة الجماعية والتجويع، إنما تحويل هذه الجرائم إلى عادة يومية، ورفض أي بدائل لوقف الحرب أو تقول إن هذا المسار سيؤدي إلى إيقاف الحرب؛ لأن إسرائيل لا تعترف بحق الشعب الفلسطيني في الوجود، وترفض أن يكون للسلطة الفلسطينية أو أي نخبة معتدلة دور في إدارة غزة.
حروب الشرق الأوسط الأخيرة كلها قدمت مسارات بديلة وشروطاً ومطالب لوقف الحرب وتكريس التسوية، إلا في غزة التي رفضت إسرائيل كل البدائل إلا التنكيل بأهلها!