في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وفي الوقت الذي تنعقد اللجنة المسؤولة عن اختيار الفائز بجائزة نوبل للسلام لهذا العام، من المتوقع أن يكون الرئيس الأميركي دونالد ترمب في منطقة ما وراء القوقاز، لافتتاح أعمال إنشاء خط سكة حديد بطول 166 كيلومتراً في أحد أكثر التضاريس وعورةً في العالم.
وأُطلق على الخط المزمع إنشاؤه بالفعل اسم «ممر ترمب نحو السلام والازدهار»، لأنه يُنهي أكثر من 200 عام من الحروب المتقطعة بين الأتراك؛ في البداية في صورة العثمانيين، والأرمن عندما كانوا خاضعين للقيصر الروسي، ولاحقاً للاتحاد السوفياتي. وقد أدّى تفكك الإمبراطورية السوفياتية في التسعينات، إلى ظهور دولة أرمينية حبيسة إلى جوار ما سُمّيت جمهورية أذربيجان، مع استمرار الصراع.
ومع زوال الهيمنة السوفياتية، اندلعت حرب بين الجمهوريتين الفقيرتين استمرت لأكثر من عقد، وأدت إلى تهجير أكثر من 300 ألف شخص من قراهم التاريخية. كما ساندت تركيا أذربيجان التي تتقارب معها في اللغة، بينما وقفت إيران إلى جانب أرمينيا، لوقف التمدد التركي نحو حوض بحر قزوين.
أما روسيا، فتبنّت سياسة الموازنة، إذ كانت بحاجة لعلاقات وثيقة مع أذربيجان من أجل صياغة اتفاقية قانونية جديدة بشأن بحر قزوين، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بممر نحو إيران عبر الحدود الأرمينية.
جدير بالذكر أن إيران تمتلك حدوداً طولها 688 كيلومتراً مع أذربيجان، تقطعها حدود أرمينيا القصيرة الممتدة لـ44 كيلومتراً مع إيران. وكان من المفترض أن يكون ذلك الشريط الضيق نقطة الانطلاق لما سُمّي «ممر الشمال - الجنوب» لربط إيران بروسيا، ومن ثم بأوروبا عبر جورجيا.
ومع ذلك، حالَ التوتر بين أرمينيا وأذربيجان دون بناء خط السكة الحديدية الرابط بين إيران وجورجيا وروسيا وأوروبا. ومع ذلك ظلّت الحدود الأرمينية حيوية للتجارة و«الترانزيت» الإيرانية، حيث كانت طوابير الشاحنات الطويلة تحمل البضائع من روسيا، ومن قبل حرب أوكرانيا، من أجزاء واسعة من أوروبا الشرقية والوسطى. وأصبح هذا الطريق أكثر أهمية لإيران للتحايل على العقوبات الأميركية والأوروبية، بدعم ضمني من روسيا وأرمينيا.
إضافة إلى ذلك، يقع مجمّعان مهمّان لتوليد الطاقة الكهرومائية في منطقة الحدود القصيرة، مما جعل التعاون الوثيق بين إيران وأرمينيا ضرورياً للطرفين. وضمن عمق خمسة كيلومترات من منطقة الحدود نجد كذلك منطقة تجارة حرة ذات أهمية خاصة للمحافظتين الإيرانيتين أذربيجان الشرقية وأردبيل، فضلاً عن مشاريع إدارة المياه وحماية البيئة.
السياسة التي اتبعها ستالين للتقسيم المتعمَّد على أساس «فرّق تسد»، أدّت إلى تجزئة جمهورية أذربيجان إلى قسمين، يقع أحدهما في الغرب ويُعرف باسم جمهورية ناخيتشيفان ذاتية الحكم، والتي لها حدود مع تركيا، بينما لا حدود لها مع أذربيجان نفسها. وبالتالي، فإن الاتصال بين تركيا وأذربيجان لا يكون ممكناً إلا عبر الأراضي الإيرانية.
وفي سياق متصل، جرى تصميم «ممر ترمب» لربط خطين حديديين قائمين: أحدهما من مدينة قارص في تركيا إلى ناخيتشيفان، والآخر بطول 158 كيلومتراً من فيليدباغ إلى أوردوباد، ثم تمديده بخط جديد طوله 166 كيلومتراً بين أوردوباد في ناخيتشيفان ومدينة هوراديز في أذربيجان، وصولاً إلى باكو على بحر قزوين. لو لم تكن إيران معزولة دبلوماسياً، لكان الطريق الأمثل لخط السكة الحديد «تركيا - بحر قزوين» يمر عبر الأراضي الإيرانية، إذ كان بإمكانه كذلك خدمة المحافظات الشمالية الغربية داخل إيران. وكان بإمكان الخط المُخطط له عبر إيران تقليص تكلفة بناء خطوط الأنابيب لنقل موارد الطاقة من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط عبر تركيا.
يُقصي اختيار الطريق الجديد، المعروف باسم «زانغيزور» في مقاطعة سيونيك الأرمينية، إيران من خط تجاري يُمكن أن يربط الأناضول بآسيا الوسطى والصين عبر بحر قزوين، في وقت تُستبعد فيه إيران كذلك من مبادرة الحزام والطريق الصينية العالمية. وبطبيعة الحال، تبدو طهران غير راضية عن كل ذلك.
في هذا الصدد، أعربت وكالة أنباء «تسنيم»، التابعة لـ«الحرس الثوري»، عن قلقها من أن يُشكّل المشروع، في ضوء علاقات باكو الوثيقة مع إسرائيل، تهديداً مباشراً للأمن الإيراني. وكان عنوان صحيفة «إيران» الحكومية اليومية قبل أيام: «أميركا جارتنا!». ويعود ذلك إلى أنه بموجب اتفاقية «مسار ترمب»، جرى تأجير المنطقة الحدودية على الجانب الأرميني بعمق خمسة كيلومترات للولايات المتحدة لمدة 99 عاماً.
وبموجب مذكرة التفاهم التي وقَّعها ترمب مع الرئيس الآذري إلهام علييف ونظيره الأرميني نيكول باشينيان، سيدير المراكز الحدودية الفعلية حراس أرمن. إلا أن الولايات المتحدة ستسيطر على الحدود بأكملها عبر إنشاء منطقة مسار، مثل منطقة قناة بنما في أميركا الوسطى.
وتُحيي اتفاقية الإيجار التي تبلغ مدتها 99 عاماً، ذكرى مريرة لتنازل إيران عمَّا تُعرف الآن بأذربيجان وأرمينيا وناخيتشيفان لروسيا القيصرية بموجب «معاهدة غولستان» عام 1813. وعندما انتهى عقد الإيجار هذا، كانت إيران أضعف من أن تطالب باستعادة أراضيها المفقودة، وكانت روسيا أقوى من أن تفكر حتى في إعادتها.
وتشعر طهران بالاستياء لعدم استشارتها حتى بشأن هذا التغيير الكبير في حدود حيوية. ومع ذلك، قررت قيادة طهران الترحيب بالاتفاق الذي توسط فيه الرئيس ترمب وقبول «مسار ترمب»، وإن كان ذلك بنوع من العبوس، على أمل أن يُسهم الوضع الجديد في تخفيف التوتر مع واشنطن.
ومن مؤشرات قبول طهران للجار الجديد؛ قرارها وقف مشروع بناء قاعدة عسكرية جديدة في تالش، قرب الحدود مع كل من أرمينيا وأذربيجان، لاستخدامها المحتمل في عملية غزو وضم نخجوان. وبالتالي، ربما يضمن «مسار ترمب» كذلك الحفاظ على السلام بين إيران وأذربيجان.
من جهته، ظل المرشد علي خامنئي ملتزماً الصمت التام بشأن هذه القضية، في تأييد ضمني للنهج البراغماتي للرئيس مسعود بزشكيان.
وبصفتهما «جارتين»، سيتعين على إيران و«هيئة منطقة المسار» التعاون في عدد من المجالات: الأمن، ومكافحة المهربين والمخدرات وتجارة البشر، مع الحفاظ على مشاريع بيئية ومائية مشتركة راسخة. كما ستحتاج المنطقة الأميركية هناك، من جهتها، إلى التعاون مع إيران لتأمين جزء من احتياجاتها من الكهرباء، بالإضافة إلى جميع احتياجاتها من النفط والغاز. بمعنى آخر، سيتعين على الموظفين الإيرانيين والأميركيين تعلم كيفية التواصل والعمل معاً في إدارة الأمور العملية اليومية، بدلاً من احتجاز الرهائن، وتصدير الثورة، ومحو إسرائيل من على الخريطة، والأسلحة النووية.
حسناً. هنا يطل سؤال واحد: هل سيعترف أقطاب نوبل بدونالد ترمب صانعاً للسلام؟