كان مشوارًا مبهـرًا ورحلة إنسانية غاية في الثراء، قطع خلالها المسافات بين بلاد الدنيا، ينشر المعنى الحقيقي للإنسانية بلا صخب أو ضجيج ، وقدم درسًا في الوطنية وإنكار الذات.. أصبح من علامات وطن علّم الدنيا وصاغ أجمل وأرقى ما فيها، وأضاف لوطنه صفحة من العطاء الإنساني الرفيع .. أتحدث عن مجدي يعقوب ، وهناك صفات وألقاب كثيرة تسبق هذا الاسم في وطنه وفي عالم فسيح رفع فيه راية مصر عاليًا..
ـــ التقينا مرات قليلة في صحبة عالم مصر الكبير أحمد زويل، وكنت أتابع مشوار مجدي يعقوب منذ تألق اسمه في سماء الطب، عالِمًا مجتهدًا، جعل الإنسان غايته والنجاح مشوار حياته.. في آخر لقاء بيننا كان في الطائرة المتجهة إلى دبي في حفل تكريم من دولة الإمارات العربية المتحدة، وكنت مدعوًا لإقامة أمسية شعرية، كانت مصادفة غريبة أن نجلس في مقعدين متجاورين، ودار الحديث بيننا، وأنا أستمع إلى هذا العالم الذي جسّد بمواقفه وإنجازاته شيئًا جميلاً وعظيمًا اسمه الرحمة..
ـــــ كنت أعرف الكثير عن مشواره ورحلة كفاحه، من شاب خرج من مصر باحثًا عن حلم أن يتعلم أكثر، لأن العلم طريق الرقي، ولأنه أفضل طريق للتقدم من أجل إنسان أفضل.. كنت أسمعه وهو يتحدث في أحد البرامج عن تجربة سفره إلي انجلترا منذ عشرين عاما، وحكايته مع شاب صغير كان يبيع المناديل علي الرصيف، وفي طريقه إلي المطار كان الزحام شديدا ونزل من سيارته ووجد هذا الشاب يبكي وعرف أن أحد المقاولين أقام عمارة جديدة واستعان به في نقل كميات من الأسمنت لأعلي أدوار العمارة ورفض أن يعطيه أجره المناسب.. وأكمل د.يعقوب حكاية الشاب الذى كان يدرس في المرحلة الثانوية وعرض عليه أن يعمل معه في عيادته وأن يتحمل نفقات تعليمه .. وأكمل الشاب الصغير مشواره في عيادة د. مجدى يعقوب ومضت به رحلة الزمن وأكمل دراسته متفوقا ودخل كلية الطب وأصبح طبيبا وكانت المصادفة أن الطائرة التي تخلف عنها د.يعقوب منذ عشرين عاما قد سقطت وفيها جميع الركاب، ويكون حظ وائل أن يكمل مشواره مع مجدي يعقوب ويصبح أحد مساعديه.. ويكمل د.يعقوب الحكاية بأنه سافر إلي انجلترا بعد ذلك وكان في صحبته د.وائل جراح القلب الشهير وأصبح من أشهر جراحي القلب المساعدين في فريق مجدي يعقوب.. كانت قصة ممتعة من د.يعقوب وهي تؤكد الجوانب الإنسانية في شخصية الرجل منذ بداية حياته .. كانت هذه بداية الرحلة التي حملته إلى لندن، ليصبح واحدًا من أشهر جراحي القلب في العالم.
ـــ وقد قدم نموذجا رفيعا فى السلوك والإنسانية والحضارة، حين ذهب إلى إثيوبيا مع فريق ضخم من الأطباء لإجراء عمليات جراحية فى القلب للمئات من فقراء إثيوبيا .. إن الرجل بحسه الوطنى وحبه لبلاده يعرف أن هناك أزمة كبيرة بين مصر وإثيوبيا بسبب مياه النيل والسد الإثيوبى فقرر أن يحارب على طريقته بأن يذهب إلى الشعب الإثيوبى ويقدم لهم نموذجا رفيعا فى السلوك والإنسانية، هذه اللفتة الإنسانية والحضارية وهذا النموذج الذى قدمه د.مجدى يعقوب يمثل سلوكا حضاريا وإنسانيا فريدا فى التعامل مع الآخرين..
ــــ حياة مجدى يعقوب وأعماله الرائدة كتبها كاتبان بريطانيان فى كتاب بعنوان (جراح ومتمرد) وهى حوارات مع مجدى يعقوب وحكايته على مدى عقود، منذ مولده فى مدينة بلبيس حتى حصوله على وسام الاستحقاق من ملكة بريطانيا فى عام 2014.. إنه عندما كان فى الخامسة من عمره ماتت عمته إيوجين بسبب مرض فى القلب، كان رحيلها فى الثانية والعشرين من عمرها حدثا مأساويا للأسرة كلها ورغم أن مجدى كان صغيرا، لكن وفاة عمته الشابة ظلت تلازمه، وجعلته يفكر منذ هذه السن المبكرة فى أن يصبح طبيبا ويتخصص فى علاج القلب.. ولما قال لوالده إنه يعتزم عندما يكبر أن يصبح جراحا للقلب، رد عليه بقوله: «لا يمكن أن تكون جراح قلب، لأنك غير منظم لن تنجح فى أن تصبح جراح قلب، أنت اخترت الاختيار الخطأ» وكان هذا الموقف أول تحدٍ يواجهه مجدى يعقوب فى رحلته الطويلة نحو المجد..
وقال «انه كان يتدرب مع والده لحضور عملية جراحية وفور أن شاهد منظر الدم بعد بدء العملية أصيب بالإغماء، وبعد أن أفاق من الإغماءة قال له خاله ساخرا: «تريد أن تصبح جراح قلب وأنت لا تتحمل منظر الدم؟» فقال مجدى تعليقا على هذا الموقف: «فعلا أنا لا أستطيع رؤية منظر الدم، ولكن الحقيقة أننى عندما أكون داخل غرفة العمليات أكون مستغرقا تماما فى الأمر وأشعر بالسيطرة التامة على كل شىء، فلا يفزعنى منظر الدم, لكن إذا حدث وكنت فى الشارع وشاهدت دماء تسيل نتيجة حادث فأنا لا أكون مسيطرا على الأمر».
وعندما سئل فيما بعد عن سبب خروجه من مصر فى عهد عبدالناصر، قال يعقوب: «كان هناك وعى بأنه كان فى مصر فئة تتمتع بالكرامة وفئة محرومة منها، وحاول عبدالناصر إتاحة التعليم المجانى للجميع، وكانت النتيجة انهيار مستوى التعليم وأدى حل عبدالناصر إلى تدمير التفوق والامتياز..
ــــ كانت المهمة الصعبة في مشوار مجدي يعقوب أنه اختار قلوب الأطفال ليجد فيها متعة الحياة ومعنى الرحمة. لم يكتفِ بما حققه في لندن، بل عاد إلى وطنه عاشقًا يرد الجميل، فأنشأ مركزه الطبي في أسوان، وبدأ رحلة جديدة في مشواره الطويل لعلاج وإنقاذ قلوب أطفال مصر.. تحول المركز إلى مؤسسة عالمية يزورها الرواد من كل بلاد الدنيا، نموذج يُحتذى في الجمع بين العلم والرحمة... لم يكتفِ بحلمه في أسوان، فجاء إلى قاهرة المعز ليقيم مؤسسة مجدي يعقوب للقلب، وتدفقت عليه التبرعات والمساهمات من مصر والعالم العربي.. وقرر مجدي يعقوب أن يكمل مشواره مع العلم، بابتكار أضاف الكثير إلى أعماله السابقة، حين قدّم علاجًا جديدًا لمرضى القلب، استبدل فيه بالدعامات الصناعية دعامات طبيعية، فكانت خطوة علمية غير مسبوقة في تطوير جراحة القلب..
ــــ كان يفضل دائمًا أن يمارس حبه للأطفال، ويحرص على أن يعيش حلمه في إنقاذ حياة طفل أو رجل كبير. سمعته يومًا في حديث تليفزيوني يطلب من المذيعة ألا تمدحه أو تستعرض معه إنجازاته، بل أن يكون الحديث عن العلم، لأنه الأساس الذي سيقام عليه مستقبل البشرية.. قال يومها إن العلم هو الحضارة، وإنه يتمنى أن يرى في مصر قلاعًا للعلم، فهي جديرة بأن تشارك بقدرات شعبها في صناعة المستقبل..
ــــ كانت رحلة مجدي يعقوب درسًا لكل أصحاب الأحلام الكبرى، حين سافر وتعلّم وأنجز، وأصبح رسولًا من رسل الرحمة، أعظم ما خلق الله.. تبقى رحلة مجدي يعقوب بين السفر والعودة والانتماء، بكل مشاعر الصدق والعطاء، حكاية مصرية تجسدت فيها الإرادة والحلم والإنجاز… أن يبقى الإنسان حالِمًا طوال مشواره، لا يتوقف أمام عمر أو زمن، ويظل مخلصًا لأحلامه في إنسان أجمل وأفضل، وأن تكون الرحمة هدفًا وغاية، ليبقى الإنسان إنسانًا.. وفي تقديري أن د.مجدي يعقوب يحمل مشوارا وتجربة ثرية تستحق أن تكون درسا لشبابنا وأن تسجل للأجيال القادمة..
بعد أيام نحتفل بعيد ميلاد مجدى يعقوب ونقول له بكل الحب كل عام ومصر القادرة الغنية تنجب كل يوم قمة من القمم العظيمة ورسولا من رسل الرحمة.
..ويبقى الشعر
عَادَتْ أَيَّامُكِ فِى خَجَلٍ
تَتَسلل فى اللَّيل وتبكى
خَلفَ الجُدرانْ
الطفلُ العائدُ أعرِفُه
يندفع .. ويمسك فى صَدْرِي
يشعلُ فِى قَلْبِى النِّيرانْ
هدأتْ أيامُكِ مِنْ زمنِ
ونسيتُكِ يومًا لَا أَدْرِي
طَاوَعَنِى قَلْبِى ..
فِى النَّسْيانْ
عِطْرُكِ .. مَا زَالَ عَلَى وَجْهِي
قَدْ عِشتُ زَمَانًا أَذكُرُه
وقَضَيْتُ زمانَا أَنكَرُه
والليلةُ يأتِى يحملنِي
يجتاحُ حصُوِنى .. كالبُركانْ
اشْتَقْتُكِ لحظهْ
عطرُكِ قد عادَ يحاصِرُني
أهَربُ .. والعِطرُ يطارِدُني
وأعودُ إليِه أطاردُهُ
يهربُ فى صَمْتِ الطرقاتْ
أقترب إليه .. أعانقُه
امرأةُ غيركِ تَحْمِلُهُ
يُصْبِحُ كَرَمَادِ الْأَمْوَاتْ
عِطْرُكَ طَارِدَنِى أزمانا
أهرب .. أو يَهْرَبُ .. وكلانا
يَجْرى مصْلوبَ الخُطُواتْ
* * *
اشْتَقْتُكِ لحظهْ
وأنا مِنْ زَمَنِ خَاصَمَني
نبض الأشوَاقْ
فالنَّبضُ الحائرُ فى قَلْبِى
أصبحَ أحزانًا تحمِلُنى
وتطوفُ سَحَابًا .. فى الآفاقْ
أحْلامِى .. صارَتْ أَشْعَارًا
ودماءً تنزفُ فى أوراقْ
تُنْكِرُنِى حِينًا .. أنكِرُها
وتعودُ دُموعًا فِى الأحداقْ
قَدْ كُنتُ حزينًا .. يوم نَسِيتُكِ ...
يوم دفنتُكِ فِى الأعماقْ
قد رَحلَ العُمْر .. وأنسانَا
صفحَ العشَّاقْ
لَا أَكَذِبُ إِن قُلْتُ بِأَنِّي
اشْتَقْتُك لحظهْ
بَل أكذب إنْ قلتُ بأني
مَازِلتُ أَحَبُّكِ مثلَ الْأَمْسْ
فاليأس قطار يلقينا.. لدُروبِ اليأسْ
والليلةَ عْدتِ .. ولاَ أدرِى لِمَ جِئتِ الآنْ؟
أحيانًا نذكُرُ موتَانَا..
وأَنا كَفَّنْتِكِ فِى قَلْبِى .. فِى لَيْلَةِ عُرْسْ
* * *
والليلة عُدْتِ
طَافَتْ أَيامُكِ فِى خَجِلٍ
تعبثُ فِى القَلْبِ بِلا اسْتئذانْ
لاَ أكذبُ إن قُلْتُ بِأَنِّى
اشْتَقْتُكِ لحظهْ
لكنى لا أعرف قلبى ..
هَلْ يَشْتاقُكِ بعدَ الآن ؟!