نغتالُ الوترَ ونرقصُ على نغمِه

نغتالُ الوترَ... ونرقصُ على نغمِه!!

نغتالُ الوترَ... ونرقصُ على نغمِه!!

 العرب اليوم -

نغتالُ الوترَ ونرقصُ على نغمِه

بقلم: فاطمة ناعوت

كنتُ بالأمس فى رحلة نيلية مع صديقتى المصرية-الفرنسية «راندا» ونجلها «آدم» ونجلى «عمر»، فى سفينة حاشدة بالعائلات المصرية من مختلف الطبقات، صاخبة بالعزف والغناء، قديمه وحديثه، رصينه ومرحه، قصيده ودارجه. وجالت عيناى تبحثان بين الحضور عن أولئك الذين رفعوا سياطَهم المنافقة لينهالوا على الشاعر المثقف الدكتور «مدحت العدل» حين حزِن على صوتٍ أصيل واعد كان مكتوبًا لصاحبته أن تغدو خليفة للخالدة «أم كلثوم»، لولا أبواق التكفير الكذوب التى جرّمت الغناء وحرّمته؟! فى سفينتنا اجتمعت طبقاتُ مصر بجميع أشكالها وألوانها ومستوياتها الفكرية، فمن أين تأتى الأصواتُ الناعقةُ الزاعقةُ التى تُحرِّم الشدوَ وتصِمُ مَن يُجلُّه بالفجور؟ ذباب سوشيال ميديا الذين يرتدون ثوبَ التديّن الزائف، ويعتمرون قبّعات المزايدات الرخيصة، ويسبُّون الفنانين ويكفرونهم، ماذا يفعلون أصلا على الصفحات والمواقع إذا كانوا كما يزعمون يقطرون تديّنًا وورعًا وتُقًى؟!

ليسوا إلا حفنةً من المنافقين، يلعنون الطربَ على الصفحات، ويرقصون على سُلّمه فى الخفاء والعلن.
لعلَّ مصرَ الأغزرُ غناءً وإرثًا موسيقيًّا. وطنٌ فنانُّ لم يُنجب مغنيًا ولا مائةً، بل أجيالًا متلاحقة من أصوات عبقرية صاغت وجدان العرب، وعبرت بالغناء المصرى حواجزَ اللغة والدهشة، فشهدنا مطربات الشرق الأقصى يُغنّين «بسبوسة» بصوت «شادية» ويجهدن ليحاكين حلاوتها ورقّتها، ويشدين «الأطلال» برصانة سيدة الغناء. فى مصر، لا يمرّ يوم دون أن يُولد صوتٌ، ولا تمضى ليلة دون أن يُولَد لحن. مصرُ تتنفّس الغناءَ والإبداع. ونحن شعبٌ يتحدّثُ بالموسيقى. الفلاحُ يزرع وهو يغنى، والقرويات يحصدن فيما يُغنين، والبناؤون يعلون بالأبنية ممزوجةً بالنغم، وباصات المدارس تصافح هواءَ الصبح بالأغنيات، وعلمُ مصرَ يعلو لصاريته بالنشيد. حوارى مصرَ تزغردُ بالأغانى الشعبية، مثلما تصدحُ الأغنية النخبوية من مسارحها. إرثها الفنيُّ ليس وحسب فى كمّ الأغانى، بل فى عبقريتها، وجرأتها على التجريب والابتكار. مصر لا تُغنى، بل تُعلّم العالم كيف يُغنى. لهذا قال «أفلاطون» لأهل أثينا بعد عودته إليها فى القرن ٤ ق.م. من مصر متأثرًا بموسيقاها: «علّموا أولادَكم الفنونَ، ثم أغلقوا السجون».
أنصِتْ إلى تلاوةٍ قرآنية بأصوات مُقرئى مصر الخالدين، الذين حصدوا قلوبَ المسلمين فى جميع أرجاء الأرض. ليست مجرد «قراءة»، بل بناءٌ صوتىٌّ ومعمارٌ موسيقى، مبنىٌّ على «علم المقامات القرآنية» الجليل. علمٌ وُلد فى العراق وفارس، ثم تجذّر وتَجلّى وأشرق فى المدرسة المصرية، حتى صار لكلّ قارئ مصرىّ «مقامٌ» مميز، وطابعٌ صوتيّ خاص، يُوظّف المقامات الموسيقية بعبقرية تخدم معنى الآية الكريمة، وتُبلغ رسالتَها للقلب قبل العقل.
هل من الطبيعى أن نناقش فى القرن٢١ أهمية الفن ومشروعيته؟ أيُعقَل أن نُستدرَج مرةً تلو أخرى إلى فخاخ السؤال التافه: هل الفن حلالٌ أم حرام؟ وكأننا نُعيد كل صباح اختراع العجلة ثم نُكفّر مَن اخترعها، ونلعن من صنعها، ونرجم من ركبها، ثم ندور حول أنفسنا لنستخدمها فى تواطؤ وخسّة ونفاق!
ما هذا الهوس الجماعى بالتكفير والتنمّر والاغتيال الأدبى للجمال؟! ألا نتعب؟! ألا يملّ هذا المجتمع من الوقوف أمام المرايا المشروخة ليسألها: «أيليق أن نغنّى؟» ثم نغنى؟! «أيجوز أن نضحك؟» ثم نضحك؟! ألا يعرفُ «المنافقون» أن سورةً قرآنية نزلت فى لعنهم لتفضح ازدواجيتهم ورياءهم؟! فالنفاق ليس خللا عابرًا، بل جريمةٌ أخلاقية: أن تقول ما لا تفعل، وتُظهر ما لا تبطن، وتُدين ما تعيش عليه سرًّا وجهرًا.
لماذا نكذب؟ نستهلك الفنَّ كل لحظة: فى المدارس، فى الرحلات، فى هدهدة أطفالنا، ثم ندّعى أننا مجتمعٌ «لا يحب الفن» ولا يحتاجه؟! نحن لا نعيش لحظة دون مُنتَجٍ فنّى، ومع هذا نُجبرُ المبدعَ أن يعتذرَ عن موهبته فى كل لقاء، وأن يقدّم اعترافًا بالتوبة مع نهاية كل أغنية!
كلّ الأمم تعبرُ، تمضى، تتجاوز، تقطعُ المراحلَ، تتواثبُ صعودًا على سلّم التطور حضارةً بعد حضارة، ونحن، وحدنا، ندور منذ ألف عام فى المربع رقم صفر. نناقش ما نوقش، ونكرّر ما تعِب من التكرار، ونحفر فى تربة جدباء بحثًا عن الماء، بينما الآخرون صنعوا الأنهارَ الصناعية فى الصحارى، واستمطروا السُحُبَ لتوليد الغيثَ من سماء الهجير.
لماذا نُضطر فى كل ندوة ومهرجان، وحديث إعلامى ومقال إلى تبرير الفن، وكأنه جريمة؟! كيف سمحت لنا ضمائرُنا أن نضعَ «الجمال» فى قفص الاتهام، ثم نصوّبَ عليه سهامَنا المسمومة. لماذا على الشاعر أن يُؤكد حُسن نواياه، وعلى الرسام أن يُثبت أن الألوان لا تُغضب الله؟! لماذا يتحتّم علينا القسمُ بأن الموسيقى ليست إثمًا، والسينما ليست مجونًا، والفنَّ ضرورة حياة؟! كيف نبرّر ما هو فطرىٌّ مطبوعٌ فى الإنسان؟ لماذا نغتالُ الوترَ الموسيقى، ثم نرقصُ على نغمه فى خلوتنا؟!
وللحديث بقية.

 

arabstoday

GMT 15:03 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

تشيلسى: كيف تهزم باريس سان جيرمان؟

GMT 15:00 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

كيف تنام الحكومة أمام غول البطالة ؟!

GMT 04:40 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

بقع لا تزول

GMT 04:38 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»

GMT 04:37 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

أحوال الشام في عيون الريحاني

GMT 04:35 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

سلام السودان وازدواجية المعايير!

GMT 04:33 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

أعياد الفراعنة

GMT 04:32 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

هذا الوجه لي!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نغتالُ الوترَ ونرقصُ على نغمِه نغتالُ الوترَ ونرقصُ على نغمِه



درّة زروق بإطلالات كاجوال مثالية في صيف 2025

بيروت ـ العرب اليوم
 العرب اليوم - رانيا فريد شوقي تتحدث عن والدها وحلمها الكبير

GMT 03:01 2025 الثلاثاء ,15 تموز / يوليو

مستوطنون يقتحمون قرية برقا شرقي رام الله

GMT 05:58 2025 الثلاثاء ,15 تموز / يوليو

انخفاض أسعار الذهب بشكل طفيف

GMT 13:34 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

يوتيوب يودع صفحة "التريندات" هذا الشهر

GMT 04:41 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

الذهب يصعد ترقبًا لبيانات التضخم الأميركية

GMT 03:23 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

إسرائيل تجدد غاراتها على محافظة السويداء

GMT 03:55 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

زلزال بقوة 3.5 درجة يضرب اليونان

GMT 13:17 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

قصف إسرائيلي يستهدف مدينة السويداء السورية

GMT 06:02 2025 الثلاثاء ,15 تموز / يوليو

مسيرات روسية تقتل شخصين في خيرسون

GMT 14:18 2025 الثلاثاء ,15 تموز / يوليو

عواصف وفيضانات مفاجئة تضرب إسبانيا

GMT 03:59 2025 الخميس ,17 تموز / يوليو

قصف إسرائيلي يستهدف لواءين في ريف اللاذقية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab