بقلم : حنا صالح
على الدوام كان الخطاب التهويلي وإلقاء تبعة التآمر على الآخرين الذين لا يتورعون عن اللعب على حافة الحرب الأهلية، من أدوات الأطراف الطائفية في الممارسة السياسية، خصوصاً من الجهة التي يطولها تحجيم الموقع والحصص. فكيف مع «حزب الله» الذي ذهب بعيون مفتوحة إلى حرب دمّرت البلد وكسرت اللبنانيين، ويعيش إنكاراً غير مسبوق مع ثلاثيته الجديدة: الهزيمة والعزلة والسقوط. إنها المرة الأولى بتاريخ دولة الاستقلال تتجرأ جهة ما على التهديد بأنه لو تمّ تطبيق الدستور فـ «لن تكون هناك حياة في لبنان»! فئة تهدد اللبنانيين بإلغاء حيواتهم، ويصل نعيم قاسم في خطاب الويل والثبور ليعلن «إما سلاحنا وإما مواجهة كربلائية»، إن تمسكت الحكومة بقرار حصر سلاح «حزب الله» بيد القوى الشرعية. وهذا الموقف يُسقط سرديات لطالما تم الترويج لها ومفادها أن هذا السلاح هو للدفاع عن البلد!
حدث قبل 17 سنة، يوم 5 مايو (أيار) 2008 أن قررت الحكومة تغيير قائد جهاز أمن المطار وفيق شقير الموالي لـ«حزب الله»، وملاحقة المسؤولين عن شبكة اتصالات «الحزب» التي عُدَّت اعتداءً على سيادة الدولة والمال العام. ردت الدويلة باستخدام «السلاح للدفاع عن السلاح»، وكانت أحداث 7 مايو 2008، عندما اجتيحت بيروت وأهينت، وقُتِلَ العُزَّل من أبنائها الذين افتقدوا السلطة وأجهزتها ولم يدافع عنهم أحد. ووصف حسن نصرالله، زعيم «حزب الله»، ذلك اليوم الأسود بـ«المجيد»، وسط تهليل «حلفائه» ليفرض في «الدوحة» مكاسب للدويلة على حساب الدولة أبرزها «الثلث المعطل» في الحكومة، بحيث باتت الأقلية تتحكم بمصير البلد!
الفارق بين تاريخي 2008 و2025 لا يقتصر على 17 سنة وحسب. في الأولى كان «الحزب» منتشياً بما زرعه في عقول بيئته ومريديه عن «انتصار إلهي» حققه في حرب عام 2006، زمن إلحاق لبنان رهينة بمحور الممانعة، وزمن «التسامح» الأميركي مع النظام الإيراني، بينما حاضر لبنان تبدل كثيراً بعد «المنهبة» المصرفية وكارثة حرب «الإسناد». كما أن عالم المنطقة اختلف جذرياً مع سقوط محور الممانعة، وهو أمر يعرفه «حزب الله» بلا شك. لذلك لجأ منذ 16 يوماً مضت على قرارات تاريخية للسلطة اللبنانية بحصر السلاح، إلى خطاب تخوين ووعيد، غير عابئٍ بتداعيات كارثية على بيئته وناسه نتيجة التحدي الوقح لجميع اللبنانيين من دون استثناء وتهديدهم!
تنهي القرارات التاريخية لمجلس الوزراء حقبة عمرها 56 سنة بدأت عام 1969 مع «اتفاق القاهرة» عندما تخلى لبنان عن سيادته. تعلن هذه القرارات في الوقت ذاته سحب مشروع هيمنة «حزب الله» من التداول، بعدما كانت له الكلمة الفصل في كل صغيرة وكبيرة في آخر عقدين من عمر لبنان. ولئن كان مؤكداً أن «الحزب» الذي يعيش عزلة خانقة، أعجز من أخذ البلد إلى حربٍ أهلية، فإنه قادر على إحداث توترات واضطرابات أمنية، ينبغي أن توضع في الحسبان لاحتوائه ومواجهته. لكن السؤال الأساس لماذا يصر على الترويج لحالة إنكار للواقع والحقائق ويتوسلها لتبرير التمسك بالسلاح؟
يدّعي أن العدو الإسرائيلي هو من طلب وقف النار، لكنه لا يخبرنا لماذا أوقف هو الحرب إذن؟ ويروّج سردية عن منعه العدو من التقدم في حين عاد الاحتلال إلى لبنان بعد 25 سنة على التحرير، ويكاد يصبح جنوب الليطاني منطقة غير صالحة للعيش، وقد تم مسح كل بلدات الحافة الأمامية عن الخريطة. يتشبث بحالة الإنكار هذه بوهم أنها خشبة خلاص تمنع تكريس الإقرار بالهزيمة، فجاءت القرارات الحكومية لتعلن إنهاء مشروع «الحزب» (وهو مشروع تبعية للخارج) الذي هُزِم في حرب «الإسناد»، فخسر غطاءه الداخلي، وبعد الزلزال السوري أصبح راعيه الإقليمي بعيداً جداً وأولوياته الفعلية داخل حدوده. تبعاً لذلك، ثبُت عجز السلاح اللاشرعي، عندما فشل في تلبية الحد الأدنى من المهام التي قيل إنه سينهض بها: «ردع» و«توازن قوى» و«حماية»، وثبُت عجز أصحابه عن التكيف بعدما قلب العدو الإسرائيلي استراتيجيته رأساً على عقب: من الدفاع إلى الهجوم لفرض مناطق عازلة وأرض محروقة على امتداد حدود شمال إسرائيل.
الوعيد والتهديدات هي المهمة التي رفع لواءها نعيم قاسم لمنع إعادة بناء مشروع الدولة، المشروع الذي يقدّم مصالح الوطن وأهله على حساب مصالح قوة مغرقة في التبعية والارتباط بالخارج. يخشون ذهاب البلد إلى وضعٍ طبيعي، بعد عقودٍ من تعليق الدستور وممارسة اللادولة السيطرة والتسلط. واليوم أياً كانت النقاشات حول ورقة السفير توم براك التي تمت لبننتها، فإن ذلك لا يبدل مطلقاً من أهمية وضع حصرية السلاح بيد الدولة حيّز التطبيق؛ لأن في ذلك قوة لموقع الدولة ما يمكّنها من خوض مواجهة سياسية - دبلوماسية مختلفة. وهذا المنحى يفتح الباب واسعاً أمام قيام الدولة الموعودة بالتغلب على تحديات المرحلة الانتقالية إن لبناء القوة الضامنة للسيادة أو لحماية الجميع وصون الحريات والتعددية؛ ما سيفرض بدء زمن المحاسبة.