في شوارع تل أبيب وفي الكنيست حظي دونالد ترامب بما لم يحظَ بمثله في أيّ مكانٍ من العالم، وحتّى في أميركا ذاتها. غير أنّ الإجماع الإسرائيليّ عليه في الشارع وفي الكنيست لم يكن فقط مكافأة له على ما فعل، بل كان من أجل ما تريده إسرائيل أن يفعل. وما تريده هو تكبيل يديه ورجليه ولسانه قبل ذهابه إلى شرم الشيخ حيث العالم كلّه في انتظاره.
ترى إسرائيل “الشارع والكنيست” في أميركا، سواء كان على رأس إدارتها ديمقراطيّ من طراز بيل كلينتون، أو جمهوريّ من طراز ترامب، احتكاراً لا تحبّ رؤية من ينافسها فيه. أميركا في وعي الإسرائيليّين جميعاً هي العالم والعالم هو أميركا.
على الرغم من كلّ ما قدّم الرئيس ترامب لإسرائيل، وقد قدّم أكثر من غيره بكثير، فإنّ مزاجه المتقلّب وولعه بالمال ونرجسيّته الفائقة تجعله رجلاً ينبغي الحذر منه، خصوصاً بعد تبلور حدثين كبيرين كانا بمنزلة جرس إنذارٍ أيقظ خشيةً عميقةً منه:
1- تراخي إدارة ترامب في مقاومة تسونامي الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، الذي عزل أميركا على نحوٍ غير مسبوقٍ في تاريخها.
2- استجابة ترامب لمطالب العرب والمسلمين الذين التقاهم وناقش معهم مبادرته التي هدفت إلى إنهاء الحرب على غزّة.
قلق في إسرائيل
المقلق في إسرائيل أكثر من ذلك، وهو خوفها من العبارات التي تضمّنتها المبادرة وكلّ تصريحات ترامب التي فُهم منها أنّ الأمور لن تتوقّف عند غزّة، بل ستمتدّ لمعالجة مسألة السلام في الشرق الأوسط على قاعدة الإجماع على حتميّة قيام الدولة الفلسطينيّة.
التعامل مع الرئيس ترامب بعد التعرّف على شخصيّته ومزاجه وطريقته في العمل، هو الأصعب فعلاً
ليست إسرائيل، وخصوصاً الائتلاف الحاكم فيها، سعيدةً بتوغّل ترامب في مسألة غزّة، لأنّ هذا التوغّل يضيّق مساحة الاستفراد الإسرائيليّ باللعبة. لا يستطيع ترامب تجاهل قوّة وإمكانات الذين احتشدوا لاستقباله في شرم الشيخ، وكلّهم جاؤوا ليس فقط لدعم إنهاء الحرب على غزّة، بل لتأكيد الانتقال بعد ذلك إلى المسار السياسيّ، الذي وضعت أحجار الأساس له السعوديّة وفرنسا، والذي لا بدّ أن تكون الدولة الفلسطينيّة المنشودة هدفَه الرئيس.
ترامب
في إسرائيل، “الشارع والكنيست”، جرى تأكيد المؤكّد، لكن من طرفٍ واحد. أمّا في شرم الشيخ فأهمّ ما قيل هناك كان خطاب الرئيس عبدالفتّاح السيسي، ومفاده “في الشرق الأوسط الدولة الفلسطينيّة هي الحلّ”.
الرئيس ترامب بمزاجه ونرجسيّته المفرطة واستسهاله الانتقال من النقيض إلى النقيض، أصبح في الحياة السياسية الدوليّة المعاصرة نموذجاً متفرّداً في القيادة، لا يجدي معه غير الاحتواء وتجنّب التصادم المباشر. هذا مثلاً ما يفعله فلاديمير بوتين حيال تدخّلات ترامب المتقلّبة في المسألة الروسيّة – الأوكرانيّة، وما تفعله أوروبا، فرادى وجماعة، التي أوسع العلاقات التاريخية معها تنكيلاً، وما فعلته دولٌ كثيرةٌ أهانها وعرض ضمّها وحتّى شراءها كما لو أنّها منشأة عقاريّة.
العرب والمسلمون، الذين اتّحدت مواقفهم من الدولة الفلسطينيّة والعلاقة مع أميركا، وإن بتفاوتاتٍ غير أساسيّة، يمارسون سياسة التكيّف مع مزاج ترامب ومخاطبة نرجسيّته. في هذا السياق يُفهم منحه قلادة النيل تعويضاً عن خسارته الموجعة لنوبل للسلام، وتجهيز استقبال “عرمرميّ” له في شرم الشيخ، وكأنّ المحتشدين هناك يقولون له: عندنا نحن أهل الشرق الأوسط وحلفاءنا الأوروبيّين والآسيويّين فقط، تجد ما يرضيك ويسرّك!
في شوارع تل أبيب وفي الكنيست حظي دونالد ترامب بما لم يحظَ بمثله في أيّ مكانٍ من العالم، وحتّى في أميركا ذاتها
ماذا عن الدّولة الفلسطينيّة؟
لكنّ ما تخشاه إسرائيل أن يكون للرضى المتبادل ثمنٌ يتجاوز احتكارها المزمن لأميركا ويصل في مداه السياسيّ حدّاً يلامس الاعتراف الأميركيّ بالدولة الفلسطينيّة، ولو وفق صيغة الإدارة الديمقراطيّة، حيث الاعتراف يختبئ وراء مصطلح حلّ الدولتين الذي هو اختراعٌ أميركيٌّ في الأصل.
التعامل مع الرئيس ترامب بعد التعرّف على شخصيّته ومزاجه وطريقته في العمل، هو الأصعب فعلاً، ليس فقط بالنسبة للمختلفين معه داخليّاً وخارجيّاً، بل وبالنسبة للمتّفقين معه وعليه. ولأوّل مرّةٍ في التاريخ الحديث، يقود المزاج الشخصيّ دولةً عظمى.