هل فقد الغرب أوراق نفوذه تجاه روسيا؟ وهل ستبوء كافة محاولات الرئيس دونالد ترمب، التصالحية والتسامحية مع الروس بالفشل؟ وما الذي يجعل الدبّ الروسيّ منطلقًا بقوة، وغير مقيَّدٍ من أي قوة سياسية حول العالم؟
العديد من التساؤلات التي باتت موضوعة على موائد النقاش الفكرية، لا سيما ضمن دوائر الأجهزة الاستخبارية الغربية الكبرى، والأميركية في مقدّمها، عطفًا على مراكز التفكير الأوروبية والأميركية على حدٍّ سواء.
ما الذي يجعل روسيا ومن جديد في بؤرة تلك القراءات المثيرة؟
المؤكد أن الانطلاقة القوية من جانب إدارة الرئيس ترمب، لإحداث ثغرة في جدار العلاقات الأميركية–الروسية، قد بدأت في التباطؤ بعض الشيء، لا سيّما بعد اتفاقية المعادن التي وقَّعها الجانبان الأميركي والأوكراني، والتي تعدّ مكسبًا كبيرًا جدًّا خالصًا للعمّ سام، وللاقتصاد الأميركي، وبخاصة حين يعلم المرء أن تلك المعادن في حالتها الخام تعادل تريليونات الدولارات، فما بالنا حال تصنيعها وتصديرها.
مهما يكن من أمر، فإن الدبَّ الروسي لا يقيد، بل على العكس، ها هو يكتسب يومًا تلو الآخر مساحات أوسع حول العالم، سواء من جرَّاء المبادرات الذاتية التي يقوم بها حول العالم، أو من خلال جني الأرباح الخاصة بالأخطاء الإستراتيجية الأميركية حول العالم.
أحد أهم التساؤلات المطروحة على مائدة النقاش في الوقت الراهن: "كيف أخفقت العقوبات الاقتصادية الغربية، أوروبية وأميركية، في تقويم سلوك بوتين، ولماذا لم تتعرض روسيا للانهيار بعد الحصار الخانق الذي أطبق عليها، منذ عام 2014، حين ضَمَّت شبه جزيرة القرم إلى أراضيها مرة جديدة، وصولاً إلى غزوها لأوكرانيا في فبراير 2022؟
الشاهد أن لدينا مدخلَيْن إلى الجواب:
الأول: يقدمه لنا البروفيسور ألكسندر كولي، أستاذ العلوم السياسية ونائب رئيس الجامعة للأبحاث والمراكز الأكاديمية في كلية برنارد، في نيويورك.
يعتبر البروفيسور كولي أن موسكو نجحت ومنذ عام 1999، في جعل استعادة نفوذها في "المحيط القريب" أولوية إستراتيجية في مساعيها الرامية إلى عودتها مرة جديدة كقوّةٍ عظمى.
ومع وصول بوتين إلى الكرملين عام 2000، حاول بقوة ومهارة معًا، أن يجمع شَمْل ما قد تفرق في أزمنة غورباتشوف ومن بعده يلتسين، لا سيّما أن تلك الحقبة قد حكمها الأوليجارشيون الروس، والذين وضعوا نصب أعينهم أهدافهم الذاتية، وليس مصلحة روسيا التي كانت عظمى.
عمل بوتين جادًّا على تعزيز العلاقات الثنائية عبر الدبلوماسية أول الأمر، وفي طريقه لتحقيق ذلك الهدف، استخدم القوات المسلحة في مرات أخرى.
بدأ بوتين ولايته بشن حملة عسكرية شرسة لإعادة الشيشان إلى سيطرة موسكو، وعلى مدار العقد التالي، كَثَّفَ محاولاته لكبح النفوذ الغربي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي، معارضًا استمرار وجود القواعد العسكرية الأميركية في آسيا الوسطى وما يسمى بالثورات الملونة التي أوصلت حكومات أكثر تأييدًا للغرب إلى السلطة في جورجيا وقرغيزستان وأوكرانيا.
برَّرَ الكرملين حربه عام 2008 مع جورجيا بأنها محاولة لحماية منطقة نفوذ روسيا المتميزة في الجوار القريب، وقد توجت الأولوية الإستراتيجية لموسكو في كبح النفوذ الغربي في منطقتها الآن بعملياتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا ومواجهة استمرت ثلاث سنوات مع الغرب حول مستقبل أوكرانيا.
على أن ذكاء القيصر بوتين، لم يتوقف عند الآلة العسكرية فحسب، بل عمل على إنجاح مساعيه عبر البديل الاقتصادي، مؤمنًا بأنه ليس الجيوش فقط من تمشي على بطونها، كما قال نابليون بونابرت ذات مرة، بل الشعوب أيضا، وهو الأمر الذي عرفه الرومان قبل ألفي عام، من أن من يعطي الخبز، يستطيع أن يفرض شريعته.
في هذا الإطار وفرت روسيا طاقة رخيصة ودفعت بسلسلة من المبادرات الإقليمية لتعزيز التكامل الاقتصادي، فأنشأت الجماعة الاقتصادية الأوراسية، على غرار الجماعة الأوروبية السابقة، وفي عام 2007، شكّلتْ اتحادًا جمركيًّا أكثر صرامة مع بيلاروسيا وكازاخستان، مرسية بذلك تعريفة جمركية خارجية مشتركة. وفي عام 2014، شكلت أرمنيا وكازاخستان وروسيا اتحادًا اقتصاديًّا أوراسيًّا أكثر شمولاً بمؤسّسة حاكمة فوق وطنية، وما لبثت قرغيزستان أن انضمت إليه في عام 2015، ولاحقًا عندما انسحب الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش من الشراكة الشرقية للاتحاد الأوروبي تحت ضغط روسي، وأعرب عن تفضيله الإنضمام إلى الاتحاد، أشعل ذلك احتجاجات الميدان الأوروبي التي أدت في النهاية إلى انهيار حكومته.
ماذا عن المدخل الثاني؟
هو ذاك المتعلق بعنوان هذه القراءة، أما الخلية الحمراء، فهي وحدة خاصة من وحدات الاستخبارات المركزية الأميركية CIA وعملها الرئيس هو استشراف المستقبل، والتجهز بمناهج جديدة بديلة لمواجهة تحديات السياسة الخارجية والأمن القومي، عطفًا على أي نازلة من نوازل الزمن في بقاع وأصقاع الأرض.
أحدث تقارير الخلية الأميركية الحمراء، جاء يحمل عنوان "البراعم الخضراء" لروسيا الاتحادية، والرمز والدلالة هنا واضحان، أي زمن النمو الروسي القادم، والذي لم تعد هناك سدود تسده، أو حدودٌ تَحُدُّه.
كانت الأسئلة الموضوعة على مائدة النقاش مهمة للغاية وحيوية إلى أبعد حدٍّ ومَدٍّ، وفي مقدّمها: "هل روسيا بعد ثلاث سنوات من الحرب في أوكرانيا، أضعف مما كانت عليه مسبقًا؟ هل روسيا دولة محكومة بالزوال عما قريب من جراء العقوبات الغربية عليها؟ هل نصح القائمون على الخلية الحمراء الرئيس ترمب بفتح مسارات لإنهاء المواجهة التي خلفتها إدارة بايدن مع الروس وخلق حالة من عودة العلاقات الطبيعية؟
جاءت إجابات خبراء الخلية الاستخبارية الأميركية مثيرة، وفيها على سبيل المثال أن روسيا وإن ظلت عالقة في صراع لا ينتهي مع الغرب، أو إذا كانت في طريقها للاندماج بصورة أو بأخرى مع الصين، إلا أن لديها خيارات أخرى تدعم حضورها العالميّ، هذه هي البراعم الخضراء، والتي تعتمد على عدّة حقائق باتت تمثل روافع روسيا القوية القائمة والقادمة.. ماذا عن ذلك؟
من الواضح أن بوتين عرف كيف يقرأ جيدًا تحولات القوة الاقتصادية أول الأمر من أوروبا التي راكمت ثروات العالم القديم عبر خمسة قرون، إلى آسيا التي باتت قلب العالم الجديد، ومركز توازنه، وليس القارة القديمة التي باتت تتنكر اليوم لقضايا التنوير والتثوير العقلاني، وتفرغت قطاعات واسعة من شعوبها، لقضايا يمينية وشعبويات قومية، ترفع شعارات تفرق ولا توفق، وتجرح ولا تشرح.
من هذا المنطلق، لم يُعِرْ بوتين الكثير من الاهتمام بالغرب الأوروبي ودوله، ووجد متنفَّسًا واسعًا في النصف الشرقي من الكرة الأرضية، ينسج خيوطه من حوله، ويمدّ خطوطه ناحية شعوبه، ولهذا لم تتأثر دوائر روسيا إلا قليلا من جراء مكايدات الغرب الاقتصادية.
هل كان تغير المناخ بمثابة فتح جديد لروسيا، عزز من موقعها وموضعها العالميَّيْن؟
ذلك كذلك، قولاً وفعلاً، فقد أدى ذوبان الثلج في القطب الشمالي إلى أمرين صَبَّا في صالح موسكو: الأول هو الكشف عن الكثير من المعادن النفيسة والنفط والغاز، في أماكن تقع في المناطق الخاضعة للسيطرة الروسية، ما يعزز من مقدرات اقتصاد موسكو، فيما الأمر الآخر، هو أنه فتح لها طريقًا في القطب الشمالي للسفن والمركبات البحريّة، عوضًا عن الاستدارة حول العالم.
وحال أضفنا إلى ما تقدم إمكانات روسيا في مجالات الطاقة المتجددة لا سيما الطاقة النووية، وترحيب شعوب الجنوب العالمي بعودتها، وإنهاء حالة التفرد الأميركي بالقرار، بالإضافة إلى كونها دولة نووية لا يمكن أن تهزم عسكريًّا، يضحي حديث البراعم الخضراء حقيقة باعتراف الخلية الحمراء.