يبدو أنَّ مطامحَ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، المتعجّل على إنجاز «إسرائيل الكبرى»، حظيت خلالَ سنة 2025 المودّعة بقوة دفع غير مسبوقة...
إسرائيلياً، يتأكّد أكثرَ فأكثر أنَّ الرجل يفهم أكثر من غيره حقيقة مرض التطرّف العضال الذي تأصّل واستشرى في الشارع الإسرائيلي. وحقاً، بعدما كانت معظم استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع شعبية نتنياهو، نراه قد قلب الوضع رأساً على عقب منذ اعتماده خيار «الإبادة الجماعية» في قطاع غزة، وإعداده العدة لابتلاع الضفة الغربية، وتوسيعه الهيمنة على أراضي سوريا ولبنان، ناهيك من إطباقه – أخيراً – على منطقة القرن الأفريقي... تمهيداً للتحكّم في مضيق باب المندب من ناحية، وضمان «وطن فلسطيني بديل» في «أرض الصومال» من ناحية أخرى.
أمَّا عربياً، فالواضح أنَّ إسرائيل ما عادت مكتفية بـ«تحييد» نصف الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، بل صار لديها الآن حلفاء من العرب ينافحون علناً عن مصالح «يمينها» المتطرّف ومخطّطاته التقسيمية والتهجيرية والاستيطانية.
وأمَّا عالمياً، فبينما تخسر إسرائيل - مؤقتاً على الأقل - «معركة الحقيقة» في موضوع إبادة غزة، فإنَّها أكملت بقيادة نتنياهو، ورعاية المليارديرة ميريام أديلسون، تجهيز «ترسانتها» المعلوماتية المستقبلية الهادفة إلى بناء سردية مناقضة.
هذه السردية المناقضة والمتكاملة تتضمّن طوفاناً جارفاً من الأضاليل، ودفن الأدلّة، وكمّ أفواه الشهود، وتغييب المساءلة والشك والشفافية، واحتكار المنابر الإعلامية والمرافق «السايبرانية» وتقنيات «الذكاء الاصطناعي».
وضعٌ كهذا، طبعاً، لا يتحقّق من دون التزام كامل من واشنطن، التي ما عاد كثيرون من أصحاب الرأي الأميركيين يرتاحون إليه، بمن فيهم ساسة من الحزب الجمهوري وقيادات إعلامية رصينة وموضوعية. بل أكثر من ذلك، وكما بات مكشوفاً، أدّى التماهي الكامل بين مواقف الرئيس دونالد ترمب ونتنياهو، إلى إحداث شرخ في قاعدة اليمين الأميركي المحافظ والمتشدّد بين كتلته المسيحية وكتلته اليهودية. وكان من أبرز ما رأيناه خروج عدد من الأصوات المسيحية المتشددة المؤمنة بشعار «أميركا أولاً»، مثل الإعلاميين والناشطين تاكر كارلسون ونِك فوينتس وكاندايس أوينز وعضو الكونغرس مارجوري تايلور غرين، عن خط الدعم المطلق لإسرائيل. إذ يرى هؤلاء أن الولاء الحقيقي عند التيار اليهودي الأميركي الداعم لترمب، هو أولاً وأخيراً لإسرائيل.
حتى اللحظة، مع زيارة نتنياهو الخامسة للرئيس ترمب، لا تزال أسهم إسرائيل هي الأعلى في واشنطن... وسط عجز عربي تام عن بناء أي استراتيجية لمواجهة استحقاقات مستقبل المنطقة. وهذا، بلا شك، إذا كان هناك أصلاً مَن لا يزال يؤمن بضرورة أن تكون للعرب «استراتيجية موحّدة» للدفاع عن الحد الأدنى من مصالحهم. وفي هذا السياق، لا بأس من النظر إلى «الجيران» الذين يتقاسم العرب معهم منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومسالكهما الحيوية.
تركيا، مثلاً، تعتمد استراتيجية - قد نوافقها أو لا نوافقها عليها - تقوم على تعريف «فضاء مصالح حيوية» يعتمد على بضعة أبعاد:
البُعد الأول، شرعية دينية إسلامية موروثة من الحقبة العثمانية التي استمرت في معظم منطقتنا العربية بين عامي 1516 و1918م.
والبُعد الثاني، واقع قومي لغوي تركي/ تركماني، لا تزال نثرات منه موجودة على امتداد المنطقة من العراق شرقاً... حتى الجزائر غرباً.
والبُعد الثالث، ديمغرافي واقتصادي، أساسه أنَّ تركيا تطل على المضيقين اللذين يتنفّس عبرهما العملاق الروسي جنوباً، وتضم مع عُمقها في وسط آسيا إحدى أكبر الكتل المسلمة السنّية في العالم.
والبعد الرابع، استراتيجي دولي، فتركيا جزئياً «كيان أوروبي وأطلسي» مهم. ولديها جاليات كبيرة في قلب أوروبا، وبالأخص ألمانيا.
من ثم، فإنَّ القيادة التركية عندما «تتعامل» مع المنطقة العربية، نراها تناور وتعادي وتهادن وتحالف... بناء على اعتبارات حقيقية وجدّية، بل ووجودية.
إيران من جهتها، على الرغم من النكسة الكبرى التي تعرّضت لها في لبنان وفي فلسطين وفي سوريا، لا تزال ترى أنَّها «تدفع من الاحتياطي» لا من «اللحم الحي». والقصد أنَّها لا تخسر من الداخل بل من السياج الخارجي (العربي) لمصالحها.
أيضاً، أتقنت إيران عبر سنوات من الحصارين السياسي والاقتصادي سياسات الصبر وتنفيس الضغط، وتحيّن الفرص، وبناء شبكات تواصل بديلة. وهي على الرغم من خسارتها «ثلاث أوراق» عربية مهمة، وتهديد إسرائيل ورقتها الرابعة الحوثية في اليمن، لا تزال تحتفظ بهامش تحرّك مريح نسبياً يتجسّد في علاقاتها الصينية والروسية.
بل حتى إثيوبيا، كما يظهر اليوم، تعرف جيداً ما تريده من إسرائيل وكيف تحصل عليه. وهي تتسلّح راهناً بـ«إرث» تاريخي يعود إلى الأزمنة الغابرة، ولعله لم ينقطع البتة منذ تهاوى عرش «النجاشي» الأخير هايله سيلاسي «أسد يهوذا»... الذي حكم بين 1930 و1974.
إثيوبيا، التي يربو عدد سكانها اليوم على 132 مليون نسمة، والتي تسيطر على بعض أهم منابع نهر النيل، ستشكل «فك كماشة» آخر للمنطقة العربية... إذا تراجعت العلاقات معها إلى حد القطيعة أو العداء المفتوح. وهذا أمر يوليه مخطّط «إسرائيل الكبرى» اهتماماً بالغاً، وخصوصاً الآن بعد وصول نفوذ نتنياهو إلى منطقة «أرض الصومال» (الصومال البريطاني سابقاً). إذ إنه سيفتح الطريق البرّي بين ميناء بربرة الصومالي والعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ويوفّر بالتالي لإثيوبيا ميناءً بحرياً من دون الحاجة إلى جيبوتي وإريتريا.
«جيراننا»، إذن، يعرفون مصالحهم جيداً... فمتى نتعلم منهم بعض ما يجيدونه، أم أنَّنا «هرمنا»... فكبرنا كثيراً على التعلّم؟!