بقلم: دكتور زاهي حواس
انتهينا فى المقال السابق من عرض «التقرير الرسمى» الخاص بالمعركة الأشهر فى التاريخ المصرى القديم، والتى دارت بين الجيش المصرى بقيادة الفرعون رمسيس الثانى وبين جيوش الحيثيين بقيادة الملك مواتيللى الثانى وأعوانه من أكثر من ١٦ دويلة وإقليمًا وعرقًا بشريًّا ذكرها التقرير بالاسم. دارت المعركة بالقرب من حدود مدينة قادش فى حوالى عام ١٢٧٤ قبل الميلاد. واليوم نتناول بالشرح نتائج المعركة العسكرية والسياسية والحضارية بعيدًا عن النزعة القومية أو محاولة لَىّ الأدلة للوصول إلى نتائج مرغوبة بدافع الشعور القومى!. إن المتفق عليه بين معظم علماء المصريات، سواء الأجانب أو المصريين، أن موقعة قادش قد انتهت بدون نتيجة حاسمة بمعنى عدم وجود غالب أو مغلوب!، وأن نصوص ونقوش موقعة قادش التى سجلها رمسيس الثانى على معظم معابده يجب النظر إليها من منظور دعائى بحت، وأنها من قبيل تمجيد انتصار ساحق لرمسيس الثانى لم يحدث إلا من وجهة نظره هو فقط. وقد استند علماء الآثار فى رأيهم هذا على دليلين: الأول: هو أن السجلات، التى تم الكشف عنها فى عاصمة الحيثيين «خيتا» وأحيانًا «حاتوشا» بالقرب من بوغاز كوى فى تركيا، تقدم رواية مختلفة تشير إلى نصر أو نتيجة غير حاسمة. ثانيًا: إذا كانت الرواية المصرية صحيحة، فلماذا وقع رمسيس الثانى أول معاهدة سلام موثقة فى التاريخ الإنسانى القديم مع ملك الحيثيين خاتوسيلى الثالث، وأحيانًا خاتوشيلى الثالث؟.
الحقيقة أن الملك رمسيس الثانى قائد الجيش المصرى تعرض لظلم كبير من علماء المصريات الذين تجاهلوا عن دون قصد أن الجيش المصرى لم يدَّعِ يومًا انتصارًا زائفًا. والمعروف تاريخيًّا عن جيش مصر منذ زمن الفراعنة أنه إذا خسر موقعة فإنه يستعد لموقعة أخرى، والدليل على ذلك ثابت وموثق فى حروب التحرير ضد الهكسوس. انتصر الهكسوس فى معركتهم الأولى ضد الملك المصرى الشهيد سقنن رع، الذى سقط شهيدًا فى قلب المعركة، وتحمل مومياؤه إلى يومنا هذا آثار بطولته. ولم يدَّعِ الجيش المصرى فى ذلك الوقت أنه انتصر فى هذه المعركة. كما أن الهكسوس انتصروا أيضًا فى المعركة الثانية ضد ابنه الشهيد كاموس. وأيضًا لم نجد ادعاءً واحدًا من الجيش المصرى بأنه كان المنتصر. ثم جاء النصر على يد الملك أحمس الذى هزم الهكسوس فى موقعة تلو الأخرى حتى طاردهم خارج الحدود المصرية وحاصرهم لعدد من الشهور وهم مختبئون داخل حصن شاروهيم، واستمر إلى أن أبادهم، ولم نسمع عنهم مرة ثانية فى التاريخ القديم. وبالتالى كانت الوثائق المصرية سواء الملكية أو غير الملكية كنصوص الضباط الذين اشتركوا وخاضوا معارك التحرير ضد الهكسوس صادقة إلى أبعد الحدود.
الأمر الثانى المهم هو أننا لكى نعرف مَن هو المنتصر فى موقعة قادش يجب علينا دراسة النتائج التى ترتبت عليها، والتى كان من أهمها وقف التمدد الحيثى وعودة السيطرة المصرية على الشرق الأدنى القديم وتأمين طرق التجارة. تلك كانت أسباب خروج الجيش المصرى لملاقاة الحيثيين الذين قاموا بتهديد الممالك الواقعة تحت السيطرة المصرية، وتهديد طرق التجارة المصرية. أما عن معاهدة السلام فيجب ألا ننسى أن الملك رمسيس الثانى وقعها بعد مرور ١٦ عامًا على موقعة قادش ووقعها مع خاتوسيلى الثالث وليس مع الملك مواتيللى الثانى الذى حاربه!، وبالتالى فمن الخطأ اعتبار أن المعاهدة نتيجة مباشرة للمعركة، وإن كنا لا ننفى أنها نتيجة مباشرة لصراع النفوذ!، وقد نصت شروط المعاهدة على إقرار السلام بدل العداء، وتبادل تسليم المجرمين والتحالف العسكرى المشترك وإقرار النفوذ المصرى على كل أرض فلسطين وكنعان، والتى كانت تضم الأردن وجنوب لبنان وأجزاء من سوريا مع الاعتراف بالنفوذ الحيثى على الممالك المتحالفة معه مثل مملكة أمورو. كما نصت المعاهدة على تبادل الهدايا وكذلك قام خاتوسيلى بإرسال إحدى بناته ليتزوجها رمسيس الثانى ويصبح اسمها المصرى ماعت حور نفرو رع، وذلك تأصيلًا لأواصر الصداقة بين المصريين والحيثيين.
بدأت أعمال الحفائر فى العصر الحديث تتوصل إلى أدلة ملموسة على صدق الرواية المصرية، خاصة الحفائر التى تمت فى موقع تل النبى ماندو المعروف باسم قادش القديمة فى سوريا، والتى ساعدت فى تحديد موقع المدينة وتحصيناتها التى شهدت واحدة من كبرى المعارك العسكرية فى التاريخ القديم.
وأخيرًا فإن الحديث عن أسلوب المبالغة والتفخيم الذى اتبعه الفنانون والشعراء الذين قاموا بتسجيل وقائع المعركة على جدران المعابد المصرية بتصوير رمسيس الثانى كبطل خارق، فهو أمر طبيعى من حيث طبيعة مؤسسة الملكية فى مصر القديمة منذ عصر نشأتها الأولى قبل ٣٢٠٠ قبل الميلاد. أضف إلى ذلك أن رمسيس الثانى هو فرعون غير كل فراعنة التاريخ القديم؛ خاض الكثير من المعارك الحربية منذ أن كان وليًّا للعهد فى جيش أبيه الملك سيتى الأول، وقد ظل رمسيس ملكًا على مصر لما يقرب من ٦٧ سنة، لدرجة أن المصريين الذين عاصروه فى أواخر عهده كانوا يتندرون بأنه يحكم مصر منذ زمن أجدادهم الأوائل.