بقلم : أمل عبد العزيز الهزاني
كنا منظمين، كإعلاميين توجهوا إلى البيت الأبيض لتغطية اللقاء التاريخي، وهو تاريخي لأسباب، بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الأميركي دونالد ترمب. ولأن صفقة الطائرات «F-35» متعلقة بالدفاع والأمن، كانت محور جدل واسع في الإعلام الأميركي المتلفز والمقروء. والكل يسأل ويُجيب، سواء كان راضياً أو رافضاً: هل سيؤثر بيع الطائرات على الأمن القومي الأميركي؟ الطائرات تنتمي لجيل جديد، محدّث بالذكاء الاصطناعي، طبعاً بخلاف ما نعرفه عن قدرة التخفي والرصد. لكن القيادة السعودية حظيت خلال الأعوام الماضية بثقة الإدارة الأميركية الحالية، في قضايا تدخلت فيها الرياض لتسوية القضايا الإقليمية ونزع فتيل الخلافات، وهو ما يقوم به الرئيس ترمب ويفاخر به حينما يصف نفسه برجل «الصفقات»، كصفقة غزة وغيرها. هذه الثقة مهمة حينما نأتي للحديث عن ضمانات تحفظ القطع الحربية بعيداً عن مخاطر تسرب التقنية لخصوم واشنطن. دائماً ما كانت صفقات الأسلحة السعودية تثير النقاش، لسبب مهم وهو الخوف من اختلاف موازين القوى في المنطقة؛ إذ تحتفظ إسرائيل بمقعدها الأول، ولا تريد أن ترى منافساً بقربها. الواقع الذي نعلمه أن امتلاك السلاح لا يعني استخدامه؛ إذ إن السعودية ليست كإسرائيل، ولا إيران، بل هي تنظر للحروب وكأنها شلل يصيب القدرة على المضي قدماً نحو المستقبل، ويعطل النهوض والإقدام. لكن تظل للسعودية سياسة قديمة في عملها على تطوير القوات الجوية، وهذا حق مشروع لها؛ إذ حصلت في الثمانينات صفقة «الأواكس» التي وافق عليها كارتر ونفذها ريغان، وكانت ولا تزال طائرات نوعية. وقبلها كانت اتفاقية «كوينسي» الأمنية الشهيرة بين الملك عبد العزيز وروزفلت عام 1945. لذلك تأتي هذه الزيارة في سياق تاريخي مهم.
الاتفاقات الأخرى التي شملتها الزيارة لم يكن حولها جدل سياسي كبير؛ كونها استثمارات في قطاعات مختلفة، لكن كان هناك حديث عن الرقاقات، أو أشباه الموصّلات، التي تمثل العمود الفقري في منظومة الذكاء الاصطناعي. الولايات المتحدة نفسها لا تصنع ما يكفيها، وفي المستقبل سيكون الطلب عالياً؛ لذلك تحتاج إلى شركاء، ليس تايوان فقط، والتي تصنّع أجود الرقاقات في العالم، وتنازعها الصين عليها، ولكنها بحاجة إلى شركاء محتملين من كل الدول. السعودية لديها المساحة الجغرافية، والطاقة للتشغيل، والمال لبناء مراكز البيانات، والمياه لتبريدها؛ لذلك هي شريك مثالي. خلال اللقاء سألت ولي العهد الأمير محمد عن توقعاته من تطوير الشراكة مع الولايات المتحدة في هذه المشاريع الضخمة كالذكاء الاصطناعي، ومشاريع تنقيب وتكرير المعادن النادرة التي اكتُشفت حديثاً في الأراضي السعودية، وسلاسل الإمداد، وغيرها. كان رد ولي العهد أنه منفتح على هذه الشراكات إلى أبعد الحدود.
الاستثمارات نفسها طويلة الأجل؛ لأنها تحتاج إلى بنية تحتية، ثم تشغيل، ثم تصنيع، وأخيراً الإنتاج. لذلك من يعتقد أن رقم تريليون دولار رقم كبير، قد لا يعلم أنه رقم لقيمة مشاريع ستأخذ وقتاً طويلاً حتى نرى مخرجاتها، ليس رقماً على ورقة شيك للإمضاء، هي مشاريع استشرفت المستقبل، وهيأت لمتطلبات السوق العالمي.
في سؤالي الثاني الذي وجّهته للرئيس الأميركي حول رؤيته للعلاقة السعودية - الأميركية من الناحية الاستراتيجية على المستويين السياسي والاقتصادي، وعلى مستوى القيادة، كان رده أنه لا يتخيل أن هذه العلاقة ممكن أن تكون أفضل مما هي عليه اليوم، وأسهب في وصف منافعها للبلدين، حتى وصل لنقطة أن السعودية حليف استراتيجي خارج «الناتو».
فريق كبير من رجال الأعمال السعوديين كانوا حاضرين في منتدى الاستثمار السعودي - الأميركي، توافقوا مع نظرائهم، ووُقعت اتفاقيات بنحو نصف مليار دولار في قطاعات مختلفة. لكن لنتذكر دائماً أن الدور السعودي الإسلامي والعربي يفرض عليها أن تكون عوناً لدول ممتحنة بالحروب والنزاعات. ومثلما نجح الأمير محمد بن سلمان في رفع العقوبات عن سوريا ودعم استقرارها السياسي في مايو (أيار) الماضي، طلب الأمير محمد من الرئيس ترمب هذه المرة النظر في الملف السوداني، والذي أراه شخصياً من أهم ما تحقق خلال هذه الزيارة. استطاع الأمير محمد توظيف الأجواء الإيجابية والحفاوة التي أظهرها الرئيس الأميركي لتكون في صالح السلام في السودان، الذي بكل أسف تراجع في الأهمية السياسية والإعلامية بسبب حرب غزة، رغم أن ما حصل ويحصل في السودان لا يقل في قباحة جرمه وفداحة وحشيته عما حصل في غزة، بل يزيد.
هل الجميع راضٍ عن نجاح الزيارة؟ بالتأكيد هناك غاضبون، وغاضبون بصمت، من داخل أميركا وخارجها، لكن من الصعب سرقة التركيز على المستقبل لمتابعة أقاويل حول الماضي، حتى النميمة الإعلامية التي من الممكن أن يظن بعض الصحافيين أنها قد تكون مؤثرة، هي في الحقيقة ثرثرة تجاوزها الزمن.
في يومٍ ما، بعد مائة عام، سيحل حاكم من آل سعود ضيفاً على البيت الأبيض، وستأتي صحافية لتقول إن أحفاد ضحايا الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 غير راضين عن الزيارة...! فهذه أدوات إعلامية ستظل تُستخدم رغم هشاشاتها؛ لأنه هكذا يتغذى الأشرار.