لا تطالع شيئاً عن التفكير في فرض وصاية أميركية على قطاع غزة إلا وتذكر معه أن اجتماعاً بشأن القطاع انعقد قبل أيام، وأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب دعا إليه توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وجاريد كوشنر، صهره ومستشاره في ولايته الأولى.
ولا تذكر بلير وكوشنر معاً، إلا وتذكر معهما بيت الشعر الشهير الذي كان أمير الشعراء أحمد شوقي قد قاله في أحمد عرابي بعد عودته من منفاه. إذ قال شوقي وهو يصب غضبه على عرابي:
صَغار في الذهاب وفي الإيابِ
أهذا كل شأنك يا عرابي؟القصة بين شوقي وعرابي قصة أخرى، ولكن ما يهمنا فيها أن ما قاله أمير الشعراء عن زعيم الثورة العرابية يكاد ينطبق هو نفسه من حيث معناه على هذين الرجلين اللذين دعاهما ترمب ليرى ماذا يمكنه أن يفعل تجاه غزة.
مستقبل غزة لا يحتاج إلى كل هذا الجهد الأميركي أو الإسرائيلي في اختراع الأفكار، ولكنَّ الحكومتين في البلدين تُتعبان نفسيهما بغير ضرورة ومن دون جدوى. وفي كل مرة تفكران في شيء جديد، فإنه سرعان ما يعود بهما إلى المربع الأول، وليس المربع الأول سوى أن غزة أرض فلسطينية وأنها لن تكون إلا كذلك.
لا شيء مباشراً أمامنا يقول إن التفكير في فرض وصاية أميركية على غزة لعشر سنوات من بين بنات أفكار بلير وكوشنر، ولكن الرجل العربي القديم كان يحاول تبسيط الأمور في مثل هذه الحالة من خلال وعي فطري لديه. كان يقول إن «البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير». كان يلمح بعرةً مُلقاة على الأرض، فيفهم أن بعيراً لا بد قد مرّ من هنا، وكان يرى أثر أقدام على الأرض، فيفهم أيضاً أن إنساناً لا بد قد مرّ من هنا، وأن هذا هو الدليل أمامه لا تخطئه العين في الحالتين.
وبالقياس نفهم أن ما جرى تسريبه عن الوصاية إياها، إنما هو من حصيلة اللقاء بين الثلاثة. أما لماذا تفهم ذلك؟ فلأن بلير الذي تبع جورج بوش الابن في غزو العراق، لا يمكن أن يقدم شيئاً آخر إلا من مستوى الغزو الفاشل من حيث نتيجته إلى اليوم، ولا يمكن لكوشنر كذلك أن يقدم شيئاً، إلا من نوع صفقة القرن التي كان فشلها كفشل الغزو في تحقيق شيء، سواءً بسواء.
لا تعرف ما علاقة رئيس الوزراء البريطاني السابق بقضية كقضية غزة؟ إن غزو العراق كان بمنزلة الاختبار له، وما دامت هذه هي حصيلة الغزو التي يجنيها العراق، وتجنيها معه المنطقة والإقليم، فلقد كان ذلك كافياً لاستبعاده عند البحث عن حل لأي قضية أخرى، فضلاً عن أن تكون هذه القضية هي قضية غزة بكل تعقيداتها. فما نتج عن وجوده إلى جوار بوش الابن في قضية العراق يكفي للإشارة إلى نوعية العواقب التي تجلبها أفكاره.
ولا تعرف في المقابل لماذا غاب كوشنر عن الصورة تماماً منذ أن بدأ ترمب ولايته الثانية، ثم جرى استحضاره فجأة هكذا إلى داخل إطار الصورة؟ إن صفقة القرن كانت اختباراً له في فترة ترمب الأولى، وما دامت الصفقة قد ذهبت بذهاب الفترة الأولى، فالوصاية التي يقترحها مع بلير سوف تذهب أيضاً بذهاب هذه الفترة الثانية للرئيس ترمب.
الفكرة التي يجري الترويج لها بوصفها من بنات أفكار المجتمعين الثلاثة؛ هي أن توضع غزة تحت وصاية أميركية لعشر سنوات أو أكثر، وأن يجري تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى بلد آخر، أو أن يتجمعوا في مناطق مقيَّدة وآمنة في أركان غزة!
فكرة بائسة كصاحبها، ولا فرق بين أن يكون صاحبها هذا أو ذاك منهما، ولكنها في الغالب ليست من بين بنات أفكار ترمب، لأنه لو كان يملكها ما دعاهما إلى لقاء معه في البيت الأبيض، ولألقاها علينا كما ألقى أفكاراً سابقة له سرعان ما تبخرت كأنها كتابة على الماء!
المفروض أن الاثنين يتابعان المأساة الحاصلة في غزة منذ سنتين تقريباً، والمفروض أنهما تابعا الأفكار التي جرى اقتراحها حلاً ثم لم تصمد عند أي اختبار، والمفروض أن كل واحد منهما يعرف بينه وبين نفسه ما انتهى إليه الأمر على يديه سواء في العراق أو في حديث الصفقة، والمفروض أن يقدما ما يصمد إذا جرى اختباره أو أن يبتعدا عن الصورة.
ولكنهما قدما هذه الفكرة البائسة التي لن تختلف عن سابقاتها، ولن يكون مصيرها بعيداً عمَّا كان في انتظار الأفكار المماثلة من مصائر.
لو أن أحداً نصح إدارة الرئيس ترمب بالتوقف عن تجريب المُجرّب، فسوف يُسدي خدمة جليلة للولايات المتحدة، ولن تكون الخدمة الجليلة لها وحدها، ولكنها ستكون للعالم معها على حد سواء.
فالمشكلة أن واشنطن لا تجرب المُجرّب على أرضها، وإلا لقلنا إن هذا شأنها وشأن أبنائها، وإنما المشكلة أنها تجربه في ميدان العالم على اتساعه من حولها، فيبدو من أثر ذلك كأن أركانه تتداعى بعضها فوق بعض.