جمعتنا صداقة جميلة فى زمن الأحلام القوية والبريئة، كل واحد جاء من طريق يحمل رصيده من التجارب والأحلام، وجمعتنا ساحة صاخبة من النجوم والأسماء ، واقتحمنا معًا معارك وحوارات، كان أجمل ما فيها القدرة والإصرار والبراءة.. أتحدث عن صديقى الجميل سمير سرحان الكاتب والمفكر والمبدع الجميل.
ــــ عرفت سمير سرحان عن قرب وبدأ مشوار صداقتنا فى السبعينيات، التقينا معا: سمير سرحان، ومحمد عناني، وأنا. كان عائدًا من رحلة عمل فى جامعات المملكة العربية السعودية، طاف جامعاتها ورافق رموزها وشارك فى بناء أجيالها الواعدة ، وكان عنانى عائدا من رحلة استكشاف فى إنجلترا دامت عشر سنوات، وكنت فى «الأهرام» العريقة أشرف على أول تجربة صحفية فى الصحافة العربية كلفنى بها الراحل الكبير على حمدى الجمال، وهى إصدار صفحة ثقافية يومية هى صفحة «دنيا الثقافة».. وفتحت هذه الصفحة أبوابا كثيرة لأجيال متعددة إبداعا ونقدا وفكرا وقضايا.. وكانت تجربة فريدة فى كل شيء تصدرتها أسماء جيل عظيم، بدأ برائدنا الكبير توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وحسين فوزي، وزكى نجيب محمود، وصلاح طاهر، وبنت الشاطئ، وشوقى ضيف، ويوسف خليف، وشكرى عياد، ومكي، وثروت أباظة، ويوسف إدريس، والشرقاوي، ولويس عوض.. هذه النجوم التى أضاءت سماء حياتنا الثقافية زمناً طويلاً.. وجمعتنا يومها أحلام كثيرة فى حياة ثقافية أكثر انفتاحا وحرية ومسئولية..
وبدأ اسم سمير سرحان ينطلق فى سماء الثقافة المصرية، بدأ سمير رحلة الأضواء والبريق من خلال مقالات قوية على صفحات «الأهرام».. وفى هذه الفترة لاحت فرص كثيرة فى لقاء مع السلطة، ولم يتردد سمير سرحان فى الاقتراب، ودخل سمير سرحان ساحة العمل العام والخدمة الثقافية، وأبلى فيهما بلاءً حسنا وفى تقديرى أن سمير سرحان فعل ما أحب واختار ما أراد..
ــــ كان سمير تركيبة ثقافية مميزة، جمعت الثقافة الأجنبية وتراثنا العربي، درس فى جامعة القاهرة، وكان واحدًا من أبرز تلاميذ د. رشاد رشدي، رائد الثقافة الغربية فى جامعات مصر، تخرج سمير فى قسم اللغة الإنجليزية فى آداب القاهرة، كان مثقفًا ومتفوقًا ويتمتع بحضور فريد فى ساحة أهل الفكر والثقافة.. كان سمير يتمتع بقدرات فكرية وإبداعية وضعته فى صدارة الإبداع والنقد والتجديد، مستعينًا بثقافته وفكره لكى يقترب كثيرًا من سماء طموحاته فى الإبداع والسلطة والجماهير التى ساندت مشروعه وأصبح نجمًا بين صفوفها..
ــــ كان ناقدا من طراز فريد لأنه عاشق للإبداع الجميل، وكان كاتبا مسرحيا يملك قدرات خاصة، وكان مثقفا بالمعنى الحقيقى للثقافة استيعابا ومعرفةً وفكرا.. ولا شك أن سمير سرحان قدم جزءا كبيرا من قدراته ككاتب ومبدع من أجل الخدمة العامة.. لقد شارك كثيراً فى صنع الآخرين، وكان مشروعه الكبير هو معرض القاهرة الدولى للكتاب، وهو إنجاز عظيم، منحه سمير سرحان خلاصة عمره وتجربته وشبابه وجعل من معرض القاهرة الدولى للكتاب ثانى أكبر معارض العالم بعد فرانكفورت وكانت ندوات معرض الكتاب عرسا ثقافيا يقام كل عام ليقدم المواهب والأسماء الواعدة.. وكان ملتقى لكل عشاق الثقافة فى عالمنا العربى، وكان ساحة خصبة للحوار الخلاق والفكر الحر والإبداع الجميل.. كان عاشقا للحياة والفن والثقافة، وحول عشقه لطاقة حقيقية فى كل موقع وطأته قدمه، سواء فى جامعة القاهرة أو أكاديمية الفنون أو الثقافة الجماهيرية أو هيئة الكتاب ومعارضها ولإعادة الكتاب إلى موقعه فى حياتنا من خلال مشاريع هيئة الكتاب.
ــــ وقد برز كمؤلِّف ومترجم وكمبدع للمشهد المسرحى المصرى إلى جانب عمله الإدارى والثقافى فى مؤسسات النشر والمعارض وكانت تجاربه المسرحية لتقريب مسرح شكسبير للجمهور المصرى.
من مؤلفاته البارزة كتاب «المسرح المعاصر» وهو دراسة نقدية للمشهد المسرحي، ومن مسرحياته المعروفة «ملك يبحث عن وظيفة» و«ست الملك» ومسرحيته «امرأة العزيز» التى عرضت على المسرح بعنوان «روض الفرج»، وعلى الرغم من توظيفه الغامض قصة يوسف الصدّيق، البعيد عن مغزى القصة ، فإن الحبكة الدرامية التى ابتدعها سمير كانت متماسكة بما يكفى لكى يجعلها قريبة من الفهم الشائع للناس..
كما أن له مجموعات ودراسات مثل «دراسات فى الأدب المسرحي» وكتاب التأملات «على مقهى الحياة»، إضافة إلى إعدادات ومختارات أدبية صدرت باسمه.. هذه العناوين تمثّل جزءًا من رصيد سرحان الذى تَراوح بين النقد المسرحى والكتابة الدرامية والترجمة، وكان متحيزا للنقد التطبيقى وضد النقد النظرى وكان يقول إن آفة النقد أنه لا يوجد نقد تطبيقي..
ــــ كان سمير يحلم بأن يكون وزيرًا للثقافة، وكان يستحق، ولكن بقاء الفنان فاروق حسنى فى المنصب ضيّع الفرصة على كثير من الحالمين.. ورغم أن سمير ارتبط بعلاقات طيبة مع رءوس النظام فى ذلك الوقت ، خضنا معًا معارك ثقافية كثيرة، كان أبرزها مع الدكتور يوسف إدريس حين قال فى حوار مع الزميلة عايدة رزق إن جيله آخر الأجيال المبدعة فى مصر، ويومها قلت له: من حقك أن تعتز بجيل تنتمى إليه، ولكن لا تُصادر إرادة الله فى أن يخلق أجيالًا أفضل. كنا، سمير وعنانى وأنا، نطوف محافظات مصر وجامعاتها، نتحاور مع الشباب ونكتشف أصحاب المواهب والقدرات..
ـــ ناله ما ناله بسبب إصراره على خدمة الثقافة من خلال عمله فى أجهزة الدولة وفى ظل أصعب الظروف، الأمر الذى غيب صورته كمبدع حقيقى ومثقف فاعل، فظلمته الوظيفة والسياسة، وترك سمير سرحان معرض الكتاب، ومع هذا الفراق بدأت رحلة الأوجاع والمرض والمتاعب فى حياته الخاصة، ومعها كانت رحلة النسيان وهى ظاهرة عادية فى تاريخ السلطة وتعاملها مع المثقفين فى مصر .. وفى آخر أيامه هبطت عليه مشاعر أحزان ثقيلة حين فقد ابنه وشريكة حياته، وكان يشعر بأن رحلة الأحلام خذلته..
وجلس سمير سرحان فى أخريات أيامه ليسترجع رحلة العمر، ما بين مرض الأعزاء ورحيل الأحباب وشحوب الضوء وسطوة الظلال.. وقد رحل فى لحظة عبثية بعد فوزه بجائزة الدولة التقديرية فى الآداب التى ظل سنوات طويلة يرفض ترشيحه لها فى ظل وجوده فى المنصب.. وقبل هذا كله دفع ضريبة الأحلام الكبرى التى تكسرت كالشظايا على سنوات عمره الدامي..
ــــ بقى سمير شجرة جميلة فى حديقة الثقافة المصرية والعربية، وكان إنسانًا مبدعًا وكاتبًا فريدًا وصديقًا من أصدقاء الزمن الجميل، وشريكا فى رحلة الأحلام والمعاناة والأمل بكل ما كان لها وما كان عليها، ومشوارا شهد الكثير من الإنجازات.. والكثير أيضاً من الانكسارات.. ويبقى من سمير سرحان مشاعر ود وحب احتوى بها كل من عرفوه، ويبقى منه عطاء أدبى وفنى رفيع قدمه بكل السخاء لحياتنا..
..ويبقى الشعر
لا تَحْزَنُوا .. إِنْ جِئْتُكُمْ يَوْمًا بِوجْهِِ مُسْتَعَارُ
أخْفِي بِهِ أَطْلَالَ عُمْرٍ شَوَّهَتُهُ يَدُ الدَّمَارُ
لَا تَغْضَبُوا مِنِّى إِذَا أَخْفَيْتُ إِخْفَاقِي .. وَيَأْسِي
كي أَبَشِّرَكُمْ .. بِصَيْحَاتِ النَّهَارْ
إِنِّي أَرَاهُ هُنَاكَ طُوفَانًا يُعَرِيدُ فِي جَوانِحِنَا
وَيَعْصِفُ فِي دِمَانَا .. لَنْ يَطُولَ الانْتِظَارْ
قَدْ لَا يَطُولُ العُمْرُ بِي
حَتَّى أراه جزيرةً خَضْراءَ تَعْلُو فَوْقَ أَمْوَاجِ البِحَارْ
قَدْ لَا يَطُولُ العُمْرُ بِي
حَتَّى أَراهُ كَبَسْمَةٍ بَيضَاءَ فِي عَيْنِ الصَّغَارْ
لَكنَّنِي سَأكُونُ أَغْنِيةً
تَطِيرُ عَلَى قِبَابِ القُدسِ تَزْهُو بِالْأَملْ
سَأَكُونَ نَارًا تَحْرِقُ الكُهَّانَ ..
والزَّمَنَ المُعِّوقَ .. والدَّجلْ
* * *
القُدسُ سَوْفَ تُحاصِرُ المَوْتَى
سَتَهْدِمُ كُلَّ جُدْرَانِ الْمَقَابِرْ
سَتَطُوفُ فَوْقَ شَوَاهِدِ الْأَحْيَاءِ
تَصْرُخُ فِي بُيُوتِ السُّوءِ...
سَوْفَ تَصِيحُ مِنْ فَوقِ المَنَابِرْ
يَتَدَفَّقُ الصَّوتُ العتيقُ
فَيُغْرِقُ الجُثَثَ القَدِيمَة .. ثُمَّ يَبْعَثُهَا
وَتَنْبُتُ مِنَ بَقَايَاهَا الخَنَاجِرْ
يَا نُوحُ .. لا تَعْبَأُ بِمَنْ خَانُوا
فَلَنْ يَنْجُو مِنَ الطُّوفَانِ غَادِرْ
* * *
القدسُ تَحْتَضِنُ الرِّجَالَ الرَّاحِلِينَ بِحُلْمِهِمْ
والجُرْحُ فِي الْأَعْمَاقِ غَائِرْ
القُدْسُ مَا زَالَتْ تُحلِّقُ فِي القُلُوبِ...
وَإِنْ بَدَتْ فِي الْأَفْقِ أَحْزَانًا تُكَابِرْ
القُدْسُ تَصْرُخُ فِي مَآذِنِنَا:
حَرَامٌ أَنْ يَضِيعَ الحَقُّ .. يَا زَمَنَ الصَّغَائِرْ
* * *
القُدْسُ سَوْفَ تَعُودُ كَالبُرْكَانِ
تكتسح الزَّمَانَ الراكد المَوْبُوءَ...
تُشْرِقُ فِي دُجَى اللَّيْلِ البَصَائِرْ
ستُدَاعِبُ الأَطْفَالَ بالحَلْوَى ...
وبالقصص القَدِيمَة .. والحَكَايَا
سَوْفَ تَحْمِلُ فِي يَدٍ زَيْتُونَةً خَضْراءَ
تَحْمِلُ فِي الْيَدِ الْأَخْرَى .. خَنَاجِرْ
سَتُعلَّم الأَطْفَالَ نُطْقَ الحَرْفِ ...
قَتْلَ الظُّلْمِ .. وَأَدَ الخَوْفِ ..
كَيْفَ يَكُونُ صَوتُ الحَقِّ
نُورًا فِي الضَّمَائِرْ
وسَيَسْقُطُ الكُهَّانُ كالحَشَراتِ ..
فِي صَمْتِ الْمَقَابِرْ
وسيزحَفُ الْمَوْتَى جُمُوعًا بالبشائرْ
وَالقُدْسُ تَصْرُخً خَلْفَهم
وَتَصِيحُ فِيهم
لَنْ تَمُوتُوا ... لَنْ تَمُوتُوا مَرَّتَيْن