بقلم : عبد المنعم سعيد
معذرة إذا كان فى هذا المقال عودة إلى مقال نشر قبل عامين تقريبا (5 سبتمبر 2023) تحت عنوان «رؤية مصر 2025» فحواه أن المحروسة وقتها بقى عليها سبع سنوات لكى تصل إلى العام المنظور فى رؤيتها 2030. وهو بالتأكيد لن يكون حصاد العام كما تعودنا فى مقالات شهر ديسمبر من كل عام. كان ظنى أنه وقد بقى عامان على هذه اللحظة التاريخية إنجاز الكثير لكى تحقق ما تصبو من مكانة خاصة وأن الوباء وآثاره قد باتت خلفنا. لم يأت إلى ذهنى أنه بعد أسابيع قليلة سوف تقوم «حماس»، الإخوان المسلمون مرة أخرى، بهجومها على إسرائيل بحيث تقلب المنطقة كلها رأسا على عقب من أجل أتباع إيران فى سعيها إلى منع التوسع فى السلام الإقليمى وما يرتبط به من التركيز على البناء والتنمية. باتت حرب غزة الخامسة تكرارا من حيث الشكل للحروب الأربعة السابقة، وكما فعلت مصر مع ما سبق قامت بالوساطة وتقديم الإغاثة وحماية مصر من التهجير بيد، والاستمرار فى البناء باليد الأخرى. ولكن من حيث مضمون الحرب كانت نتيجتها أكثر قسوة، وأعطت إسرائيل ما لم يعطها أحد، وفى لحظتنا الآن فإن موقعها قد أصاب إيران بجروح تسخن رأسها للانتقام، وتعطى الدولة العبرية الظن أنها تستطيع إعادة تشكيل المنطقة وفى الطريق تقيم «إسرائيل الكبرى».
استهلال المقال السابق كان أنه «لابد من التفكير فيما يجب التفكير فيه، وهو أن نخلق من الظروف الصعبة الراهنة فرصا كثيرة خاصة أن السجل المصرى الحالى يمنحنا قدرات كبيرة لتحقيق هذه الغاية». الدرس الكبير وقتها هو أنه لابد من استمرار التنمية المصرية حتى ولو كان الإرهاب مشتعلا، أو كانت «الجائحة» قائمة. الآن وبعد عشر سنوات من نقطة البداية هو أن مصر لم تعد كما كانت ونجحت فى تحقيق درجة من التقدم ظهر فى معدلات النمو التى استمرت حتى فى سنوات «الجائحة»؛ وفى زيادة مساحة المعمور المصرى؛ وظهرت فى التقارير المالية الدولية التى أعطت لمصر تقديرات إيجابية. خرجت مصر من الاحتجاز حول نهر النيل فى اتجاه بحارها وخلجانها، وتماسك ذلك كله بشبكة بنية تحتية قوية ربطت بين الوادى والصحراء، والوادى وشبه جزيرة سيناء.
لكن مع نشوب الحرب الأوكرانية وإنتاجها لأزمة اقتصادية عالمية ظهرت معالم ضغوط كبيرة على الاقتصاد المصرى حتى بات يواجه صعوبات كبيرة فى التعامل مع التضخم، وما ظهر من صعوبات للوفاء بالتزامات مصر إزاء قروضها الداخلية والخارجية. والأخطر أن الصورة الإيجابية لمصر فى التقارير الدولية للمؤسسات المالية الدولية أصدرت تقديرات سلبية عن الحالة المصرية واقتصادها. بات على مصر استمرار التقدم إلى الأمام وليس التراجع إلى الخلف كما جرت العادة التاريخية المعبرة عن دورات من التقدم يتلوها دورات أخرى من التراجع كما حدث منذ نشأة مصر الحديثة فى عهد الوالى محمد على حتى جرى التراجع الكبير بالفوضى وحكم الإخوان فى مطلع العقد الثانى من القرن الحالى.
خلال عامين تقريبا كانت مصر قد عقدت العزم على تجاوز آثار الأزمة الأوكرانية، والتعامل مع أزمة غزة الخامسة الفلسطينية والإقليمية بينما المسيرة دائرة فى اتجاهها الرامى إلى المعاصرة والتحديث. وفى العام الحالى 2025 بدأت ثمار جهد عقد من السنوات وسط أزمات كبيرة فى الظهور، حيث ارتفعت تحويلات المصريين العاملين بالخارج خلال الشهور السبعة الأولى من عام 2025 مُسجلة أكثر من 23 مليار دولار مقابل 15.5 مليار دولار خلال ذات الفترة من العام الماضى، فيما حقق شهر يوليو وحده 3.8 مليار دولار. الشهور التالية شهدت عائدات تأخذ بالتحولات إلى 40 مليار دولار عند نهاية العام. التحويلات كانت مهمة فى حد ذاتها، ولكن أهم ما فيها أنها شهادة ثقة من المصريين الذى لم تكن تحويلاتهم مالية فقط، وإنما استثمارية أيضا فى المشروعات العامة والخاصة. لم تكن صدفة أن تزايد الاستثمارات الأجنبية أقدمت عندما كانت شهادة الثقة مصرية نجحت فى حل المشكلة الدولارية من ناحية، وارتفاع قيمة الجنيه المصرى من ناحية أخرى. وتوالت الأرقام بعد ذلك حينما ارتفعت قيمة الصادرات غير البترولية بنسبة 19٪ خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2025 لتبلغ 40 مليارا و614 مليون دولار مقابل 34 مليارا و148 مليون دولار خلال نفس الفترة من العام الماضى، كما انخفض العجز فى الميزان التجارى بنسبة 16٪ حيث بلغ 26 مليارا و322 مليون دولار مقارنةً بـ 31 مليارا و373 مليون دولار خلال نفس الفترة فى العام الماضى.
ولأول مرة منذ 7 سنوات جاء التقرير الصادر عن مؤسسة «ستاندرد آند بورز»، رافعا تصنيف مصر إلى مُستوى «B» مع نظرة مستقبلية «مستقرة»، واجتياز الدولة المصرية بنجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى، وأن الحكومة المصرية تقوم بتنفيذ هذا البرنامج بكفاءة، وأن العائد سيتعاظم خلال الفترة القادمة. وكان ذلك مكررا فى تقرير مؤسسة «فيتش» الذى أكد تعافى الاقتصاد المصرى واستعداده لتحقيق انطلاقة قوية خلال المرحلة المُقبلة. استراتيجية مصر للبناء بيد، ومواجهة الأزمات بيد أخرى، وصلت إلى مستقرها الناجح.