بقلم : مصطفى الفقي
هناك مدرستان للإبداع الفكرى والفنى تمضى إحداهما أفقية الاتجاه وتمضى الثانية رأسية التأثير ورغم ظهور النظريات الحديثة التى انحازت لمفهوم التخصص ورفضت شيوع المعرفة، بل وأنكر بعضها نظرية وحدة المعرفة بالكامل، حيث قال دعاة هذه المدرسة إن التخصص هو لغة العصر وهو الأداة المقبولة للتأثير فى الإمكانات الذهنية للوصول إلى الأعماق فيما يتصل بفكرة معينة أو رأى بذاته، بينما أصر دعاة وحدة المعرفة على تأكيد أنها كالأوانى المستطرقة تصب من اتجاه إلى الآخر للوصول إلى الإشباع الروحى والمادى ولقد تبنت المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) الاهتمام الحديث بالتراث غير المادى فى انفتاح واضح على الجوانب المؤثرة فى ميادين الآداب والعلوم والفكر والفنون، ذلك أن التراث المادى يلمسه الجميع ويعترف به آثارًا باقية وتراثًا عمرانيًا يتعذر إنكاره، أما التراث غير المادى فقد يكون لعبة رياضية أو وجبة غذائية أو صفة وراثية تمضى وراءها الأجيال تحافظ عليها وتعتز بها، وإسرائيل دولة ذات باع طويل فى السطو على فكر الآخرين وتراثهم الباقى، بل إن يهود العالم يشنون حملات متتالية على التراثين المادى وغير المادى فى تاريخ مصر العريق، فأهرامات مصر لديهم هى صناعة وهمية لمخلوقات فضائية،
والمصريون لا علاقة لهم ببنائها العبقرى وهندستها التى تستعصى على الجميع حتى الآن، أما الوجبتان الشعبيتان فى مصر الفول والفلافل فإن الإسرائيليين يزعمون أنها وجبات يهودية، والمصريون مجرد مستهلكين لها، وما أكثر النماذج التى تدل على حالة السطو المنتظم على تراثنا المادى وغير المادى، وهنا تبرز مهمة المثقف الموسوعى المعاصر الذى يضرب بسهم فى كل اتجاه، ويستطيع أن يستكشف ملامح الإطار الحضارى لدينا ويتلمس بسهولة مكوناته التى تعتبر شاهدًا على مسيرة التاريخ وأصالة التراث، والموسوعى بطبيعته هو ذلك الذى يدرك الارتباط الوثيق بين فروع العلم المختلفة ومصادر المعرفة المتعددة ويربط بينها ربطًا موضوعيًا تتسع له مساحة المعرفة الموسوعية المعاصرة، وأنا شخصيًا من المتحمسين لنظرية وحدة المعرفة بل والمؤمنين بها، فالعالم الفنان أفضل من العالم فقط، والمفكر الأديب أفضل من المفكر المجرد من أسباب الخيال ومظاهر التطور المختلفة لما يحيط بنا من ظواهر يستعصى بعضها على الفهم البشرى والأفق العادى، ولقد تعلمت البشرية عبر القرون الماضية أن وحدة المعرفة تؤدى بالضرورة إلى تشابك العلوم وتداخلها على نحو غير مسبوق، ذلك أن بعضها يعتمد على البعض الآخر ويستمد سبب وجوده من عناصر أخرى تهتم بالخطوط الرفيعة للتواصل بين أطراف الفكر والعلم والفن والأدب وغيرها من مظاهر الوجود المتسارع لديناميات الحياة والإيقاع السريع المرتبط بتكنولوجيا العصر وأدوات التقدم المبهرة التى ترتفع بالعقل البشرى إلى مراتب عليا لم تكن متاحة له فى القرون الماضية.
تحية لكل مثقف موسوعى فى العالم العربى استطاع أن يوظف قدراته لخدمة وطنه وأمته والسمو بهما إلى آفاق المستقبل الواعد والعالم الذى يختلف اليوم عن كل ما مضى من عصور وكل ما شهدناه من تحولات!.