بقلم : عبد اللطيف المناوي
نستكمل فى هذا المقال ما بدأناه بالأمس حول أحداث محافظة السويداء، التى تحوّلت من اشتباك محلى محدود إلى ساحة إقليمية مكتملة الأركان، تتقاطع فيها مشاريع تل أبيب مع حسابات دمشق وواشنطن، فى لحظة حساسة من عمر الصراع السورى الممتد.
الرهان الإسرائيلى على الشرع بدأ يتلاشى سريعًا. فرئيس السلطة السورية الجديد، الذى جاء بتفويض دولى وإقليمى جزئى، ظهر عاجزًا عن فرض سيطرته على منطقة تُعد من أكثر المناطق حساسية من الناحية الطائفية والسياسية، بل إن عودته إلى خيار القوة ضد الفصائل الدرزية المسلحة، بعد محاولات تهدئة فاشلة، عكست إما انقسامًا داخل أجهزة الحكم، أو انسياقًا خلف طبيعة عقائدية، تعيد إنتاج الحلول العسكرية التى أثبتت فشلها.
فى المقابل، ظهرت إسرائيل كمن يمسك بخيوط اللعبة، ليس فقط عبر الغارات التى شنتها بذريعة «حماية الدروز»، بل أيضًا من خلال إرسال مساعدات إنسانية إلى مناطق جبل العرب، فى خطوة اعتبرها مراقبون محاولة لخلق نقطة نفوذ دائم داخل سوريا، شبيهة بالتجربة التى خاضتها فى جنوب لبنان خلال الثمانينيات.
ما يعزز هذا التحليل، هو ما كشفه موقع «المونيتور» عن توجيه تل أبيب إنذارًا إلى دمشق بضبط الأوضاع فى السويداء خلال مهلة قصيرة، وإلا فسيكون هناك تدخل عسكرى مباشر.
اللافت أن هذا التصعيد لم يحظَ بموافقة أمريكية. بل إن تصريحات أمريكية رسمية عبّرت عن امتعاض واضح من التحركات الإسرائيلية، معتبرةً أن ما يجرى هو نزاع داخلى لا يستدعى تحويله إلى توتر إقليمى، فى وقت تعمل فيه واشنطن على تثبيت تفاهمات أمنية بين الشرع ونتنياهو، بوساطة تركية وأذربيجانية.
على الأرض، تتسارع مؤشرات الانفجار. الحكومة السورية شكلت لجان مراقبة محلية مع القيادات الدينية الدرزية، لكن ذلك لم يمنع تجمّع تعزيزات قبلية عربية حول المدينة. ومع تصاعد الاتهامات بارتكاب مجازر وعمليات تهجير، يبدو أن السيناريو الأسوأ بات مطروحًا على الطاولة وهو تفكك السلطة المركزية، وظهور نزعات انفصالية أو إدارة ذاتية تحت غطاء دولى، ومن ثم الدخول من جديد إلى دائرة الحرب.
الوضع السياسى والأمنى الذى أفرزه النزاع فى السويداء لا يُحتمل، خصوصا فى ظل أزمة هوية وسيطرة وعزف إسرائيلى على وتر الطائفية، وهو ما يعقّد أى مسعى حقيقى للمصالحة، ويجعل السويداء ساحة مفتوحة للتدخل الخارجى، وليس مجرد محافظة تبحث عن الأمن والاستقرار.
ما يجرى فى السويداء ليس إلا دليلًا جديدًا على أن سوريا ما بعد الحرب، ليست بالضرورة سوريا ما بعد الأزمة. فكلما اقتربت البلاد من تسوية محتملة، تتفجر بؤرة جديدة تُعيد رسم المعركة من جديد. واللاعب الإسرائيلى، الذى اعتاد أن يضرب حين تضعف خصومه، لا يبدو أنه سيغيب عن المشهد قريبًا.