بقلم:حنا صالح
الكارثة اللبنانية اليوم هي في استدراج حرب «الإسناد» الاحتلال مجدداً. والكارثة تكمن في خطوات العدو الإسرائيلي يومياً لتثبيت حزام أمني عريض بعدما مسح عن الخريطة عشرات البلدات الحدودية. والنكبة في أن يتحول تهجير عشرات ألوف الأسر إلى تهجير دائم. و«البعبع» يتمثل في تهديدات أفيخاي أدرعي لتحديد يوميات اللبنانيين والإطار المتبقي لتحركهم، فيعلن أن الاحتلال يتجاوز التلال الخمس؛ لأن «الدرونز» تحصي أنفاس اللبنانيين، وليس «البعبع» في المبادرة الرسمية للتفاوض، فكل الحروب تنتهي على طاولة المفاوضات وبين الأعداء.
عبث هو الرهان على شيطنة المفاوضات التي لا بديل عنها للحد من حجم هزيمة أكدها اتفاق وقف النار، وهو حصيلة مفاوضات رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي مع إسرائيل من خلال الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، ووافق على النتائج أمين عام «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم مسبقاً بالصورة والصوت. وعبث هو التذاكي الذي يمارسه برّي اليوم في ممالأته «حزب السلاح»، بأن يقتصر التفاوض على إطار «الميكانيزم» مطعّماً باختصاصيين مدنيين، مستشهداً بمفاوضات عام 2000 لتحديد «الخط الأزرق». ما يتعامى عنه برّي أن إيهود باراك، وهو من أبرز القادة في إسرائيل بعد إسحاق رابين وموشيه دايان، خاض الانتخابات تحت عنوان الانسحاب من لبنان، بعدما ترسخت قناعة في تل أبيب بأن لا جدوى من البقاء، وأعلن عن جاهزية لتطبيق القرار الدولي «425»، ليحقق تغطية دولية للانسحاب. فاز باراك وأعلن انسحاباً أحادياً، أحدث صدمة لدى أركان النظام الأمني السوري - اللبناني، وفي الآن ذاته كارثة لميليشيا الشريط الحدودي. فحدث التفاوض لتحديد «الخط الأزرق»، خط الانسحاب، وبعده نعم الجنوب باستقرار وأمن وإعمار وازدهار حتى حرب يوليو (تموز) في عام 2006!
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقمة الخرطوم التي انعقدت في 29 أغسطس (آب) 1967، إثر «نكسة» حرب يونيو (حزيران) 1967، خرجت بثلاث لاءات: لا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف... لكن حرب الاستنزاف وضعت عبد الناصر أمام حائط مسدود، فأعلن الموافقة على مبادرة روجرز، ومثله فعل الأردن، لمفاوضات عنوانها تنفيذ قرار مجلس الأمن «242». لاحقاً جوّفت تل أبيب التفاوض، لكنه استمر بأشكال مختلفة تبدلت بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لاتفاق «كامب ديفيد»، فاستعادت مصر كل سيناء، وضمن الأردن حدوده باتفاق «وادي عربة». حدث اعتراف متبادل، لكن التطبيع أمرٌ آخر يحدده الناس بنهاية المطاف.
هناك من يتناسى أنه بعد يومين على الضربة الإسرائيلية - الأميركية لإيران، قال مجرم الحرب نتنياهو: «هذه الحرب كحرب الاستقلال... والنصر الحاسم خطة واضحة ننفذها». تزامن ذلك مع إزالة الجدار الحدودي، في إعلان مفاده أن لا قيمة عسكرية من إطلاق صواريخ بعد تدمير البلدات الحدودية بعمق يفوق 3 كلم، وإخلاء المنطقة من البشر الذين اقتُلعوا وعودتهم ممنوعة، كما أن حظراً سارياً على إعادة الإعمار. واستمر القتل المجاني إثر اتفاق «وقف الأعمال العدائية»، وعادت سياسة العقاب الجماعي تطول كل لبنان، وعلى الأرض يتكرس واقع جديد: حزام أمني يربط الجنوب اللبناني بالجنوب السوري!
أمام معطى بهذه الخطورة وإثر قمة شرم الشيخ، أعلن الرئيس اللبناني جوزيف عون مبادرة التفاوض، لاستعادة الأرض وتحرير الأسرى وإنهاء إذلال المهجّرين، مؤكداً وجود «قرار لبناني جامع». وبدا ممكناً تحقيق اختراقٍ ولو بالنقاط يحاصر صلف العدو، وينزع من يده ذرائع التصعيد والتهديد بأيام حربية مدمرة. حدث ذلك في وقت تجاوزت فيه الاستباحة كل الحدود مع أخطر «بروباغندا» عن بناء «حزب الله» قواه العسكرية وتسليحه (...) في تجاهل متعمد لأبعاد الهزيمة التي لحقت به لجهة تصفية قياداته وكوادره، وسقوط سلاحه في الميدان، وعجزه المطلق طيلة 11 شهراً ونيف على وقف النار عن الرد مرة على التصفية اليومية لكوادره!
رغم الواقع الناطق، برز التخادم بين «الحزب» والعدو الإسرائيلي. تتالت مواقف التمسك بالسلاح، والحديث عن أن شمال الليطاني غير جنوبه، وادعاء «إعادة بناء المقاومة» و«الجاهزية»، وأنهم يحددون توقيت المواجهة (...) وصولاً إلى الكتاب الأسود المفتوح، لطعن المبادرة الرئاسية للتفاوض، وهي خيار وحيد متاح بديلاً عن الحرب؛ فيصفها بأنها «انزلاق إلى أفخاخ العدو»، ويرفض تسليم السلاح للجيش، ويضع نفسه في موقع «المكوّن» الذي يملك حق «الفيتو» على البلد، مختصراً طائفة «الشيعة»، وهي وسع لبنان، بميليشيا أسستها إيران لخدمة مخططها للهيمنة، فيسعى لجعلها درعاً لحماية سلاح وظيفته داخلية: ترهيب وتهديد وغدر لفرض أمرٍ واقع. وهنا نفتح مزدوجين لنشير إلى حقيقة أن زعماء ميليشيات الحرب استثمروا في الخلط بين الطائفة وتنظيماتهم المذهبية لتحاصص السلطة والبلد، لكن الدستور لم يمنح للطوائف أي صلاحية أو حقوق سياسية.
إنه خريف السلاح رغم الإنكار و«تسلبط» النظام الإيراني لإبقاء لبنان ساحة لمشاريعه المدمرة، و«حزب السلاح» ينبغي أن يكون قيد المحاسبة عما ارتكبه بحق لبنان واللبنانيين. الدبلوماسية والتفاوض لا بديل عنهما، وقوة المفاوض بتسريع خطوات جمع السلاح، الذي حوّل الجنوب إلى أطلال ويهدد كل الوجود اللبناني، وإطلاق موجة إصلاحات حقيقية قاعدتها المحاسبة.