لسوء حظّ الشرق الأوسط، حيث الحرب على غزّة وامتداداتها، ولسوء حظّ أوروبا حيث حرب أوكرانيا واستقطاباتها، أنّ الجالس على سدّة الحكم في البيت الأبيض هو دونالد ترامب، الحائز صفة الزعيم المرتجِل والمتناقض، والذي يتساوى عنده الخصوم والأصدقاء في المعاملة، كما لو أنّهم زبائن تجاريّون، القرب منهم والبعد عنهم يحدّدهما ميزان الربح والخسارة الماليّة ليس إلّا.
في أوكرانيا حيث الحرب الناشبة منذ أكثر من ثلاث سنوات، يتعامل ترامب بمنطقٍ استثماريٍّ بحت. ذكّر الأوكرانيّين بما دفعت الولايات المتّحدة من أموال وقدّمت من معدّات، في حربهم الدفاعية، مشترطاً تسجيل كلّ ما قدّمته أميركا ديناً يستحقّ السداد الفوريّ، وإلّا فسيترك أوكرانيا لأنياب الدبّ الروسيّ ليفعل بها ما يشاء.
بمنطق المقايضات التجاريّة، طلب من أوكرانيا التنازل عن جزءٍ من أراضيها لقاء وقف الحرب، وذلك ليس لإنقاذ الدولة الأوروبيّة ووقف الاحتلالات الروسيّة لأراضيها، بل لترتيب صفقاته الكبرى مع روسيا بثمنٍ أوكرانيّ.
بمنطق الصفقات التجاريّة تعامل مع الجدار الأمنيّ الاستراتيجيّ المتقدّم، أوروبا وحلف الناتو، فارضاً معادلةً قوامها إمّا الدفع وإمّا التخلّي، حتّى بلغ به الأمر حدّ القول أكثر من مرّة: “لا لزوم لكم”.
ذلك بعضٌ ممّا فعل تجاه أوكرانيا من موقعه رئيساً للولايات المتّحدة، وهو ما يسمح له بادّعاء زعامة ما يسمّى بالعالم الحرّ.
بمنطق “البيزنس” الرخيص خصّص لكلّ مغادرٍ من غزّة أربعة آلاف دولار، مع مساعدة سكنٍ لمدّة سنة وبعض مساعداتٍ غذائية قد تصل إلى وجبةٍ أو اثنتين في اليوم الواحد
تدمير غزّة
أمّا بشأن غزّة، فـ”البيزنس” كان وما يزال العنوان الأبرز لتعامله مع الحرب عليها، ذلك أنّ الدمار الشامل على مساحةٍ تزيد قليلاً عن ثلاثمئة كيلومترٍ مربّع وفّر وفق رؤيته أرضيّةً نموذجيّةً لمشروعٍ استثماريّ أعطاه عنواناً مثيراً هو “الريفييرا”، والأمر في هذه الحالة وبمنطق المقاول لا يحتاج إلّا إلى مئات الجرّافات لإلقاء الركام والجثث في البحر للحصول على أرضٍ فراغ تُبنى عليها أبراجٌ على غرار برج ترامب في نيويورك، وقرى إلكترونية تكون مقارَّ ومصانع لأحدث ما وصل إليه الذكاء الاصطناعي، مع كازينوهات قمار وفنادق ومسابح فوق الرمال الناعمة، ولا يهمّ رئيس العالم الحر أن يقذف بمليونَي ونصف مليون فلسطيني إلى أيّ صحراءٍ وأيّ بلد يستقبلهم.
بمنطق “البيزنس” الرخيص خصّص لكلّ مغادرٍ من غزّة أربعة آلاف دولار، مع مساعدة سكنٍ لمدّة سنة وبعض مساعداتٍ غذائية قد تصل إلى وجبةٍ أو اثنتين في اليوم الواحد. بهذا المنطق يتعامل رئيس الولايات المتّحدة مع أكبر وأفدح وأخطر حربين وقعتا في القرن الحادي والعشرين، تقوّضان أمن واستقرار شعوب منطقتين حيويّتين من مناطق العالم، أوروبا والشرق الأوسط.
في سياق “بيزنس” ترامب تساوت عنده الهند، الدولة الكبرى على مستوى العالم، مع بنما، ولا مانع لديه من عمل كلّ شيءٍ لاسترضاء موسكو، لعلّه يخلق شرخاً بينها وبين بكين، ويفتح أبواباً لـ”بيزنس” بشروط أفضل مع كلتيهما.
في كلّ زمان ومكان تدار أمورٌ سياسيّةٌ صغيرةٌ وكبيرة، بحساباتٍ فيها صورة “بيزنس”. غير أنّها لم تكن يوماً كلّ شيءٍ، خصوصاً بالنسبة لدولةٍ عظمى ذات نفوذٍ طاغٍ على مستوى العالم. غير أنّ ترامب فعل ما لم يجرؤ غيره على فعله، ليس بمنطق دعم مصلحة الدولة العظمى ونفوذها وتحالفاتها، وإنّما بمنطق “البيزنس” التجاريّ البحت. لم يفعل ذلك فقط تجاه العلاقات الأميركيّة مع الآخرين، وخصوصاً الحلفاء التقليديّين منهم، بل فعله داخل أميركا ذاتها.
أخطر ما فعل أنّه حوّل الدولة العظمى ذات المؤسّسات الراسخة والتقاليد الصارمة في عملها داخليّاً وخارجيّاً، إلى دولة مطواعةٍ في يده يشكّل داخلها وفق رؤيته الخاصّة ورؤية مَن استأجرهم للعمل معه، ويشكّل علاقتها أيضاً وفق مزاجه الخاصّ، وغالباً وفق نزواتٍ لا تليق برئاسة دولةٍ صغيرةٍ من الدول الهامشيّة في العالم.
عودةً إلى غزّة وأوكرانيا، بعد حكاية الريفييرا وتساقط الأبراج الغزّيّة واحداً تلو الآخر، ورعاية ترامب لاستكمال تدميرها وإعادة احتلالها كلّها، ومع امتلاء سماء أوكرانيا بالمسيّرات الروسيّة الإيرانية، وقصف كييف، ومع الاستعراض العسكري الاستثنائي هذا العام في الصين، لن نتوقّف عند القول: من سوء حظّ الشرق الأوسط، ومن سوء حظّ أوروبا، بل من سوء حظ البشرية كلّها وجود دونالد ترامب في سدّة الحكم والقرار في أميركا.