تتلبس الرئيس الأميركي دونالد ترمب فكرتان منذ أن تولى السلطة أول هذه السنة، إحداهما البقاء في الحكم لفترة ثالثة على غير ما يسمح به دستور البلاد. والفكرة الثانية هي رغبته الخفية مرة والظاهرة مرة أخرى، في أن تكون غزة ريڤييرا سياحية له، ولإدارته، لا لأهلها كما عاشت وكما ستظل.
وعندما أقول إن الفكرتين «تتلبسان» ترمب، فأنا أقصد هذا الفعل، لأنه يُعبّر بأكبر قدر عن الحالة التي نجدها في الرجل أمامنا. فلقد عشنا نقول إن فلاناً من الناس يتلبسه شيطان، أو عفريت، أو شيء من هذا القبيل. وهي حالات مرضية يظهر فيها المرض على الشخص تارةً ويختفي تارةً أخرى، وبصرف النظر طبعاً عمَّا إذا كان هذا التلبس حقيقة أم خيالاً.
شيء من ذلك نجده في حالة ترمب، لأنه يخرج علينا في يوم بأن غزة تصلح منطقة شبيهة بالريڤييرا الفرنسية، ثم يخرج علينا في يوم آخر بأنها لأهلها لا لأحد سواهم، وفي يوم ثالث يقول العكس، بل ينفي أنه سمع عن حكاية الريڤييرا هذه التي ننسبها إليه!
ولا يختلف الحال مع حكاية البقاء في الحكم لفترة ثالثة، فرغم أنه يعرف أن الدستور لا يسمح، وأن تعديله أمر صعب ويكاد يكون مستحيلاً، فإن ذلك لا يجعله يرجع عمَّا يردده كلما وجد الفرصة مناسبة، والمشكلة أن الموضوع تجاوزه إلى بعض المقربين منه، ومنهم على سبيل المثال ستيف بانون، مستشاره السابق للأمن القومي.
خرج بانون ليقول في حديث مع مجلة «الإيكونوميست» في عددها الأخير، إن لدى الرئيس الأميركي خطة للبقاء فترة ثالثة. ولم يكشف المستشار السابق عن شيء مما سمّاها خطة، ولكنه كان يتكلم جاداً، وكان يتحدث كأن الأمر مفروغ منه، وليس مجرد فكرة أو خاطر يمر في عقل ترمب وبعض رجاله، ثم سرعان ما يتبخر ويتوارى بعيداً عن الإعلام.
ويبدو أن الأمر يؤلم الرئيس السابق جو بايدن، الذي انتهز فرصة وجوده أمام جمع من الأميركيين في بوسطن لتسلم جائزة الإنجاز، فأطلق تصريحات نقلتها عنه وكالة «أسوشييتد برس»، وفيها وصف أيام الولايات المتحدة مع ترمب بأنها أيام شديدة السواد، وأن أميركا أقوى من أي ديكتاتور، وأنها سوف تعود إلى ما كانت عليه دائماً، ثم إلى ما قامت عليه على مدى قرنين ونصف القرن منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. لقد قامت وسوف تظل، في تقدير بايدن، على التوازن المتكئ على معادلة ثلاثية: رئاسة ذات سلطة محدودة، كونغرس أو برلمان فعّال، وقضاء مستقل.
والذين يتابعون أداء الرئيس ترمب منذ جاء أول السنة سوف يلاحظون أنه يحاول القفز طول الوقت فوق هذه المعادلة الثلاثية، ولكنَّ العالِمين بتاريخ الولايات المتحدة يعرفون أن الآباء الستة المؤسسين وضعوا من القواعد والمبادئ ما يضمن التصدي لأي محاولة من هذا النوع، وتفريغها من مضمونها عند اللزوم.
أما أعجب ما قيل في هذا الباب، فهو أن ترمب لن يُعدّل الدستور ولن يقترب منه، ولكنه سيلجأ إلى حيلة في غاية الغرابة، ولا تكاد تخطر على بال أحد، ولا سابقة تشبهها إلا التي استطاع بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يعود إلى الكرملين مرةً أخرى، على خلاف ما يسمح به دستور بلاده، وقد كانت عودته أقرب إلى العودة من الشِّبّاك منها إلى العودة من الباب!
وقد جرى هذا يوم ذهب هو من القصر إلى رئاسة الحكومة، وجاء برئيس الحكومة ميدفيديف ليترشح رئيساً، فلما انتهت فترته الرئاسية عاد إلى رئاسة الحكومة، ورجع بوتين إلى رئاسة الدولة! إنه شيء أقرب إلى الخيال السياسي منه إلى أي شيء آخر، ولكنه شيء وقع في دنيانا وتابعناه ورأيناه بأعيننا.
يفكر ترمب في أن يدفع بنائبه جي دي فانس ليخوض السباق الرئاسي في 2028، وأن يخوض ترمب السباق نفسه نائباً للرئيس، فإذا نجحا -وهذا ما يقولون عنه إنه مضمون- استقال فانس من موقعه في البيت الأبيض، ليتقدم ترمب النائب وقتها ويصبح رئيساً، لأن الدستور ينص على أن موقع الرئيس إذا خلا لأي سبب، فإن نائب الرئيس يصبح رئيساً بشكل تلقائي، وبغير حاجة إلى انتخابات ولا استفتاءات!
هذه لعبة سياسية يمكن جداً أن تتم، لأنه لا شيء يمنع فانس من الترشح رئيساً، ولا شيء يمنع ترمب من الترشح نائباً، بل إن ترمب نفسه كان قد تحدث عن نائبه بوصفه الرئيس من بعده، ولكن حديثه في ذلك كان بعيداً عن أن يكون ترشح فانس طريقاً إلى عودة الرئيس رئيساً من جديد. ولا يغيِّر من ذلك في شيء أن يكون ترمب قد استبعد هذا السيناريو، وهو يتحدث خلال رحلته الأخيرة إلى جنوب شرقي آسيا، فهو قد استبعد أن يترشح نائباً، ولم يستبعد أن يعود رئيساً، ثم إن استبعاد حدوث الشيء ليس معناه القطع بأنه لن يحدث.
لا شيء يقف في طريق إتمام هذه اللعبة، أو الخدعة، أو أياً كان اسمها، إلا أن يحلو الأمر في عين فانس فلا يقبل الاستقالة، ويكون ترمب عندها قد وقع في شر أعماله.