لو جمعنا تصريحات ومبادرات الرئيس دونالد ترامب في ولايتَيه لوجدنا أنّ كلّ ما كان يصدر عنه لم يعجبنا. وإذا ما أُضيفت إلى ما كان يعبّر عنه مباشرةً وعن مساعديه من مستوى وزير خارجيّته وسفيره لدى إسرائيل، لما وجدنا ثقب إبرة ننفذ منه للثقة بالرجل وتوقُّع مواقف ترضينا.
غير أنّ الرجل الذي يوصف بالمتناقض والمفاجئ هو رئيس الولايات المتّحدة، التي ما تزال الدولة الأقوى في عالمنا المعاصر، وأمّا في شرقنا الأوسط فهي الأوسع انتشاراً وحضوراً على الأرض والبحار وفي الأمن والاقتصاد والسياسة، وفوق ذلك كلّه تنفرد بميزة أنّها الدولة الوحيدة التي تمتلك أدوات تأثير فعّالة على إسرائيل، وخصوصاً في مسألة التسويات السياسيّة.
تجمّع خيوط الأزمات
فسّر الرئيس الراحل أنور السادات سياسته المختلفة عن سلفه جمال عبدالناصر بجملةٍ قصيرةٍ ذهبت مثلاً: إنّ 99% من أوراق الحلّ بيد أميركا.
كان تقديره دقيقاً من خلال الدور الحاسم الذي أدّاه الرئيس كارتر في إنجاز المعاهدة المصريّة الإسرائيليّة التي جسّدت اختراقاً تاريخيّاً فتح الباب واسعاً لتغيير وجه المنطقة وتغيير مسارات الصراع العربي الإسرائيليّ.
من دون الغوص في أحداث ووقائع حقبةٍ زمنيّةٍ، امتدّت منذ توقيع معاهدة السلام مع مصر حتّى أيّامنا هذه، ما يحدث الآن في عهد دونالد ترامب هو تجمّع خيوط الأزمات جميعاً بيده، من إيران ومشروعها النوويّ وقدراتها البالستيّة والتحالفيّة، وحرب غزّة، إلى الحالتين اللبنانيّة والسوريّة، والتقليل أو لجم جموح المحظيّة الأولى إسرائيل التي تحارب على سبع جبهات وتهدّد بتوسيعها، ويا للمفارقة فالجبهات السبع باستثناء إيران تحتدم في جغرافيات تعتبرها الإدارة الأميركية حليفة لها، وخسائرها جرّاء مغامرات نتنياهو أفدح بكثير من مزاياها التي كانت في زمن الحرب الباردة.
لو جمعنا تصريحات ومبادرات الرئيس دونالد ترامب في ولايتَيه لوجدنا أنّ كلّ ما كان يصدر عنه لم يعجبنا
في هذه الأيّام صار البيت الأبيض أقرب إلى غرفة عمليّات لمعالجة الحالة الشرق الأوسطيّة الملتهبة. العرب والمسلمون يستثمرون في ترامب لأنّه لا أحد غيره يملك العصا السحريّة التي توقف الحرب على غزّة، والرئيس السوري يستنجد بالبيت الأبيض لتثبيت نظامه ولجم التغوّل الإسرائيليّ عليه وعلى دولته، وبالمقابل تلوذ إسرائيل به لمنحها الإذن بمواصلة ما تفعل في المنطقة وما تعتزم أن تفعل في الضفّة وغزّة، وخصوصاً في اليوم التالي، والفلسطينيون بشقَّيهم سلطة رام الله وما بقي من سلطة “حماس” لا يجدون سوى عنوان واحد لتوجيه رسائلهم إليه هو البيت الأبيض.
ترامب
الاستعصاء الأكبر
مبرّرات الاستثمار العربي والإسلامي في ترامب تجاوزت حكاية غزّة ويومها التالي، وسلاح “حماس” ومصيره، ودور سلطة رام الله، وامتدّت إلى الاستعصاء الأكبر، وهو التسوية الشرق الأوسطية المفترض أن تنتج سلاماً دائماً ومستقرّاً يقيم دولةً فلسطينيّة.
أمّا إسرائيل فاستثمارها الوحيد هو ترامب الذي تستقوي به لإدخال جمَلها الضخم، أي تطلّعاتها، من ثقب الإبرة الذي ضاق كثيراً هذه الأيّام. فحربها على غزّة تحتاج إلى إذنٍ منه لتوسيعها وتواصلها وتوقّفها، وضمّ الضفة أجزاء منها أو كلّها يحتاج إلى مباركةٍ منه أو على الأقلّ إلى تغاضٍ.
النجاة من الغرق في بحر الاعترافات التي أسميتها بتسونامي تحتاج إلى طوق نجاةٍ أميركيّ، حتّى بقاء إسرائيل في الاتّحاد الدولي لكرة القدم يحتاج إلى ضغطٍ مباشرٍ من ترامب.
إذا كان الجميع يستثمر في أميركا، فالمنطق الصحيح يقول إنّ أميركا بالمقابل ومنطقيّاً يُفترض أن تستثمر جيّداً في استثمارات الآخرين
تظلّ محصّلة هذه الاستثمارات جميعاً ناقصةً وغير مربحةٍ إذا لم يُستفَد منها في القضيّة الكبرى والأهمّ، وهي القضيّة الفلسطينيّة، وما دامت أميركا ترامب تملك المؤهّلات التي تستقطب الاستثمارات السياسيّة من قبل جميع أطراف الصراعات الناشبة بقوّة والمهدَّدة بالاتّساع، فسوف تقع في خطيئةٍ كبرى إن لم تستثمر كلّ هذا في حلٍّ جذريٍ لأساس الصراعات والحروب في المنطقة.
إقرأ أيضاً: ترامب يعيد تعريف حرّيّة التّعبير
إذا كان الجميع يستثمر في أميركا، فالمنطق الصحيح يقول إنّ أميركا بالمقابل ومنطقيّاً يُفترض أن تستثمر جيّداً في استثمارات الآخرين، وإذا ما تحلّينا بقدرٍ عالٍ من حسن النيّة، فبوسعنا اعتبار ما حدث في نيويورك وواشنطن مع الوفد العربي الإسلامي مؤشّراً إيجابيّاً حتّى الآن، شريطة أن لا ينسفه نتنياهو في لقاء الإثنين المرتقب مع ترامب.