بلاد ما بين الجنازتين

بلاد ما بين الجنازتين

بلاد ما بين الجنازتين

 العرب اليوم -

بلاد ما بين الجنازتين

بقلم : نديم قطيش

ليس من العدل مقارنة غيابين، تماماً كما لا يُقارن حضوران. فإذا كان الميل إلى المقارنة يبدو بدهياً، وهو بديهي بالفعل، في لحظة التزامن بين الجنازة المؤجلة لحسن نصر الله، زعيم ميليشيا «حزب الله»، والذكرى العشرين لجنازة رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، فإن ما يُغفل في العادة هو أن المقارنة، مهما بدت دقيقة، تفترض تماثلاً بين كيانين لم يكونا متماثلين أصلاً، وتلغي التعقيدات التي تفصل بين تجربتين ظاهرهما متشابه وجوهرهما لا يكاد يلتقي.

وما يُفاقم هذا القصور أن المقارنة سرعان ما تصير آلية لاختزال الظواهر بدلاً من أن تكون وسيلة لفهمها عبر تحويل التحليل إلى عملية إسقاط صرفة. لكن للقدر منطقه القاسي، وللمصادفات طريقتها في رسم المعاني التي تفلت عادةً من التحليل المباشر، كما هو الحال في تلاقي الجنازتين.

مصادفة التوقيت تفرض سؤالاً لا مفرّ منه: كيف تحوّل غياب الحريري امتداداً لحضوره السياسي والمعنوي طوال عقدين، في حين أن نصر الله، وهو الذي أمضى حياته في صناعة فائض الحضور في يوميات اللبنانيين، غاب أو يكاد عن أي نقاش حول مستقبل لبنان ومستقبل حزبه؟

لم يكن اغتيال رفيق الحريري مجرد نقطة في مسار سياسي، بل لحظة انفتاح مشروعه على احتمالات جعلت منه، رغم غيابه، حضوراً متجدداً، لا بوصفه ذكرى تُستعاد كل عام، بل بصفته منهجاً يفرض نفسه، عند كل منعطف، في صياغة الخيارات التي لا تزال تتصارع عليها البلاد. بقي مشروع الدولة الذي مثّله – رغم كل المحاولات لإجهاضه أو تحويره – نقطة استدلال عند كل نقاش حول الاقتصاد والسلطة والمستقبل، على النحو الذي جعل من اسمه الثابت الأبرز في قاموس السياسة في لبنان.

في المقابل، بدا اغتيال نصر الله إعلاناً صريحاً عن استنفاد اللحظة التاريخية لوظيفته ومشروعه وحروبه وخياراته، إن كان بمعنى التراجع المرحلي ومحاولات إعادة التموضع اليائسة لحزبه، أو بالمعنى الأبلغ أثراً لتحوّل الحزب من قوة صاعدة إلى إرث ينتمي إلى ماضٍ يتقلّص.

ستستدعى تجربة نصر الله، كلما استُعيد النقاش حول تجربة الصراعات الكبرى، لا بوصفه خياراً يفرض نفسه، بل بوصفه نموذجاً لحقبة وصلت إلى نهايتها، ولا ينبغي تكرارها.

ليس من باب الصدفة أن النظام السوري الذي نجا من كل محاولات إطاحته لعقد كامل، لم ينجُ من الفراغ الذي خلّفه اغتيال نصر الله. سبعون يوماً كانت كافية لكي تترجم خسارة «حزب الله» إلى انهيار الأسد، كأنه استكمال موضوعي لصفحة تطوى في تاريخ المنطقة.

اغتيال نصر الله، بوصفه مركز الثقل لاستراتيجيات إيران، والرجل الذي أعادت طهران عبره رسم موازين القوى في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق، ليس حدثاً عابراً، بل قاطرة دفعت بانهيارات متسلسلة. فقد المحور بوصلته، ووجدت إيران نفسها في موقف دفاعي غير مألوف، بعدما كانت تمسك دوماً بناصية قرار المواجهة. ووجد «حزب الله»، الذي لطالما عُرف بقدرته على التأقلم، أنه أمام معادلة جديدة لا يملك أدوات التعامل معها: زعيم غائب، قرار مرتبك، قاعدة شعبية أنهكها الاستنزاف، وتحالفات إقليمية باتت أكثر هشاشة مما تبدو عليه.

ولئن ساد الاعتقاد لسنوات أن مصير لبنان لا يُرسم إلا على إيقاع التحولات الكبرى في طهران، وأن تربته لا تنتج إلى ما يزرع خارجها، بات من الواجب، أخذاً بالوقائع الأخيرة بوصفها البرهان الأكثر جلاءً، إعادة النظر في هذه المسلّمة. لم يكن التغيير الذي هزّ المنطقة نتيجة قرار دولي ولا امتداداً لتسوية إقليمية، بل لحظة انكسار داخلي، حيث بدأ الانهيار من الضاحية الجنوبية لبيروت قبل أن يتمدد إلى الخارج. سقط المحور لا لأن معادلات القوى الكبرى فرضت ذلك، بل لأن الرأس الذي كان يُمسك بتوازناته قُتل، ليكشف غيابه عن أن ما بدا كتلة صلبة لم يكن، في جوهره، إلا بناءً قائماً على وهم الاستمرارية المستحيلة.

من يراقب خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، ومن يدقق في تفاصيل النص السياسي في لبنان، أكان خطاب قسم رئيس الجمهورية جوزيف عون، أم تصريحات رئيس الحكومة نواف سلام، سيعثر بين مفردات السيادة والاستقلال والاقتصاد والتنمية، على نبرة صوت رفيق الحريري، كأن جنازته في فبراير (شباط) 2005، كانت لحظة إعلان شعبي أنه مقدر لغيابه أن يصبح بداية لحضور آخر، أعمق وأطول عمراً.

في المقابل، جنازة نصر الله تبدو محطة أخيرة في مسار تراجع بدأ قبل سنوات. وداعه سيكون إقراراً بأن الزمن الذي مثّله قد انتهى. فالسؤال لا يدور حول مستقبله، بل بات يطرح بشأن جدوى بقاء الحزب نفسه فكرةً وكياناً.

التاريخ ليس نصاً يُكتب بأيدي أصحابه وحدهم، بل هو الخلاصات التي تترسب حين يتوقف الصخب. ليس صعباً أن نتوقع أي الرجلين سيبقى اسمه محفوراً في ذاكرة لبنان، وأيّهما سيكون مجرد سطر في أرشيف النزاعات المنسية.

 

arabstoday

GMT 20:23 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

رسالة إلى سموتريتش: السعودية دولة تملك التاريخ والجغرافيا

GMT 09:55 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

يتيمة العصر

GMT 09:54 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

إيلون ماسك... المُطلق

GMT 09:52 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

نحن وتاريخنا...

GMT 09:50 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

نوارة الغزاوية... وفلسطين الدُمية

GMT 09:48 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ممرٌ ترابي في اتجاهين

GMT 09:47 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب ــ آسيا... بين المواجهة والتفاوض

GMT 09:46 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

«حماس» تفاوض على استبعادها

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بلاد ما بين الجنازتين بلاد ما بين الجنازتين



رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض ـ العرب اليوم

GMT 02:04 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاق سعودي - باكستاني على إطلاق إطار تعاون اقتصادي
 العرب اليوم - اتفاق سعودي - باكستاني على إطلاق إطار تعاون اقتصادي

GMT 10:01 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

عمرو سعد يوجّه رسالة لمنة شلبي ويكشف عن مفاجأة
 العرب اليوم - عمرو سعد يوجّه رسالة لمنة شلبي ويكشف عن مفاجأة

GMT 11:02 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

فائزة رفسنجاني تُثير الجدل مجدداً وتؤكد أن والدها تم اغتياله
 العرب اليوم - فائزة رفسنجاني تُثير الجدل مجدداً وتؤكد أن والدها تم اغتياله

GMT 12:36 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إيلون ماسك يطلق موسوعة غروكيبيديا المنافسة لويكيبيديا
 العرب اليوم - إيلون ماسك يطلق موسوعة غروكيبيديا المنافسة لويكيبيديا

GMT 01:56 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس السوري أحمد الشرع يجتمع بمسؤولين سعوديين في الرياض

GMT 09:50 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

نوارة الغزاوية... وفلسطين الدُمية

GMT 08:03 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

النفط يصعد بعد تراجع مخزونات الخام الأميركية اليوم الأربعاء

GMT 02:04 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاق سعودي - باكستاني على إطلاق إطار تعاون اقتصادي

GMT 14:47 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ساناي تاكايتشي تستعد لترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام

GMT 10:01 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

عمرو سعد يوجّه رسالة لمنة شلبي ويكشف عن مفاجأة

GMT 12:49 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يمتدح إيلون ماسك بعد خلاف طويل ويؤكد حبه الدائم له

GMT 07:03 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سريلانكا بين الجبال والبحار تجربة سياحية لا تُنسى

GMT 15:17 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

انفراجة دبلوماسية تسبق لقاء ترمب وشي جينبينغ في قمة آسيان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab