يمثل التعداد العام للسكان في أي بلد أداة مهمة للدولة وأجهزتها التنفيذية كي تُحسن وضع المخططات الاقتصادية والاجتماعية المناسبة لخصائص السكان، وذلك استناداً إلى متغيرات عدّة، نذكر منها التوزيع السكاني حسب الجنس والفئات العمرية والمستوى التعليمي والوضعية المدنية والاقتصادية، وغيرها من المعطيات التي يهم الدولة الحصول على بيانات دقيقة وآنية بشأنها.
إلى جانب الدولة يعد التعداد العام للسكان بمثابة المرآة التي يرى فيها الشعب ملامحه بشكل جيد. أما الباحثون، وعلى رأسهم علماء الاجتماع، فقد جبلوا على تصيّد المعطيات الدقيقة والأرقام الرسمية لفهم بعض الظواهر وتحديد أسبابها، وأيضاً للتعرف إلى التغيرات الاجتماعية وخصائص المجتمع والتحولات في المتغيرات الاجتماعية.
هناك بيانات عامة نجدها في أي تعداد عام للسكان، منها ما يتصل بتوزيع السكان حسب متغير الجنس، والتي تعد بيانات مهمة في حد ذاتها وأثرها يساعد في فهم بعض المسائل.
وهنا سأتخذ من تونس مثلاً لتوضيح حديثي فتونس من البلدان التي دأبت على إيلاء التعداد العام للسكان أهميته، ودائماً تحرص على القيام به في كل عشر سنوات باعتباره تقليداً شبه مقدس، وأيضاً أساس صياغة المخططات التنموية.
في هذا السياق، نتوقف قليلاً عند نتائج التعداد العام للسكان الذي أُعلن عن مخرجاته هذا الأسبوع. وهي نتائج حملت للتونسيين بعض المعطيات المفرحة مثل تراجع نسبة الأمية، ولكنها حملت معطيات أخرى مثّلت مادة دسمة للنقاش الاجتماعي والإعلامي حولها. من هذه المعطيات التي كانت الأسرع رواجاً والأكثر إثارة للنقاش ما يتعلق بنسبة الإناث والذكور في المجتمع التونسي اليوم؛ إذ تقول نتائج التعداد السكاني إن عدد الإناث يبلغ 50.7 والذكور 49.3 في المائة؛ أي إن عدد الإناث في تونس يفوق عدد الذكور، الأمر الذي يعكس تغيراً في التوزيع السكاني حسب الجنس مقارنة بنتائج تعداد عام 2014؛ أي قبل عشر سنوات حيث كانت نسبة الإناث 49.9 ونسبة الذكور 50.1 في المائة.
طبعاً الزيادة ليست كبيرة، ولكن كما نعلم، المخيال الاجتماعي العربي العام تعوّد أن تكون نسبة الذكور أكثر من نسبة الإناث. فهو مخيال تعوّد على مبدأ الهيمنة الذكورية... لذلك فإن أهمية هذا المعطى تكمن في كون تونس تقريباً الدولة العربية الوحيدة حالياً التي يكون فيها عدد الذكور أقل قليلاً من عدد الإناث. ففي مصر حالياً نسبة الذكور في المجتمع 51.4 في المائة. وتقريباً النسبة ذاتها في الأردن. وفي المغرب والجزائر نجد تساوياً في نسبة الجنسين مع زيادة طفيفة جداً لصالح الذكور.
في دول الخليج العربي تصل نسبة الإناث 40 في المائة، مع بعض الاستثناءات.
إذاً، رغم أن النسبة الراهنة للإناث في المجتمع التونسي ليست عالية، ولكن مقارنة بالمجتمعات العربية فهي الأعلى، وتونس حالياً الوحيدة التي تعرف هيمنة عددية طفيفة مقارنة بنسبة الذكور الأقل من الإناث.
ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى أن مسألة الهيمنة الطفيفة لنسبة الإناث على نسبة الذكور وإن استأثرت بالرواج الإعلامي، فإنها لم تحدث صدمة، وكأنها بدت مواكبة لتراكم من المعطيات والحقائق التي أثبتت حضوراً نوعياً للنساء والفتيات؛ إذ إن الأرقام صاغت مخيالاً يتوقع حصة مهمة للإناث، ولا يستغرب أن تكون الأعلى بلفت النظر عن مجال التفوق وسياقه ونوعيته. وهنا نستحضر بعض المعطيات التي صاغت هذا المخيال، ومنها أن نسبة التمدرس لدى الفتيات تصل إلى 98.3 في المائة. ويتواصل حضور الإناث لافتاً حتى في مرحلة التعليم العالي؛ إذ يمثل نسبة 68 في المائة.
إن أي تدنٍّ لنسبة الإناث في تونس سيزيد من تراجع نسبة تجديد الأجيال؛ إذ إن الأسرة التونسية اليوم الغالب عليها إنجاب طفلين أو طفل واحد، بخاصة مع ظاهرة تأخر سن الزواج. لذلك لا نجد تأثيراً على نسبة الخصوبة في مجتمعات أخرى رغم أن نسبة الإناث أقل بشكل كبير من الذكور؛ لأن معدل عدد الولادات يتجاوز الطفل أو الطفلين للأسرة الواحدة.
الملاحظة الأخرى التي تسترعي الانتباه والتفكير أن هناك نقطة مشتركة بين بلدان أوروبية عدة مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا، وهي أن نسبة الإناث أكثر من نسبة الذكور في هذه البلدان بما يقارب 1.5 في المائة؛ بمعنى أننا يمكن الاستنتاج - وبحذر طبعاً - أن الهيمنة الطفيفة لنسبة الإناث داخل المجتمع هي خاصية أوروبية.
وبشكل عام، فإن المؤكد أن نتائج هذا التعداد العام التونسي للسكان سيحرك عجلة البحوث السكانية والاجتماعية التي ستشفي غليل الأسئلة بالأجوبة العلمية الموضوعية.