الانتحار في زمن الفراعنة

الانتحار في زمن الفراعنة

الانتحار في زمن الفراعنة

 العرب اليوم -

الانتحار في زمن الفراعنة

بقلم: دكتور زاهي حواس

يخطئ من يعتقد أن عظمة الحضارة المصرية القديمة تكمن فقط فيما بقى من آثارها من أهرامات ومعابد ومقابر ومسلات وتماثيل، أو حتى كنوز فراعنتها العظام كـ كنز الملك توت عنخ آمون وكنوز ملوك تانيس الذهبية! إن عظمة مصر القديمة الحقيقية تكمن أساسًا فى الفكر الذى قدمته إلى الإنسانية كلها. لم يترك المصريون القدماء مجالًا فى العلوم أو الآداب أو الفلسفة إلا وضربوا فيه بسهم وافر جعل كل علماء وفلاسفة اليونان يعترفون بفضل مصر القديمة عليهم، وكثير منهم تفاخر بأنه تعلم فى مصر على يد أدبائها وفلاسفتها وعلمائها. ومن أرقى ما تم الكشف عنه من الأدب المصرى القديم بردية تعود إلى عصر الدولة الوسطى، وتحديدًا عصر الملك أمنمحات الثالث (1860 – 1814 قبل الميلاد)، وهى عبارة عن نسخة من نص أقدم ربما يعود إلى أواخر عصر الدولة القديمة التى شهدت اضطرابات عنيفة عصفت باستقرار المجتمع المصرى القديم وانتهت بثورة اجتماعية عارمة ظلت مصر تعانى تبعاتها لأكثر من مائة عام.

تعرف البردية باسم «اليائس من الحياة» وتصنَّف من نوع الأدب الوجودى. كشف عن تلك البردية كارل ريتشارد ليبسيوس – رئيس البعثة البروسية إلى مصر – عام 1843، ومحفوظة حاليًا فى متحف برلين بألمانيا.

بردية «اليائس من الحياة» عبارة عن حوار فلسفى مكتوب فى 184 عمودًا، يدور بين أحد أجدادنا العظام وذاته أو الـ «با» بمعنى الـ «روح» الخاصة به. يحكى الرجل الذى أصابه يأس من الحياة عن معاناته من الوحدة والألم (النفسى والجسدى) وبالتالى لا يرى أمامه من حل سوى التخلص من حياته بالانتحار! أى أن الموت أصبح بالنسبة له طوق النجاة من المعاناة فى الحياة: «يا روحى! يا مرافقتى منذ البداية! اليوم أتحدث إليك بلا مواربة: الموت صار أمامى كدواء الطبيب، كعطر اللوتس عند فيضان النهر، كخلاص الأسير من ظلم السجن... بينما الحياة أصبحت جبلًا أثقل من النحاس، وصبرى كإناء تشقق من الظمأ!».

وتبدأ روح الرجل أو نفسه المجسدة للضمير الإنسانى بالتعاطف معه فى بداية حديثها، ثم تبدأ فى تحذيره من أن الانتحار لن يؤدى إلى الخلاص من المعاناة، بل قد يكون سببًا فى تدمير فرص الإنسان فى نعيم الآخرة وحرمانه من إقامة جنازة كاملة فيها تراتيل الكهنة وحرق البخور وتقديم القرابين! تقول الروح: «أيها المهموم! أتتعجل الموت كمن يفر من ظله؟!؟ إن سعيت للموت قبل أن يأتى أوانه، فمن سيوقد البخور على مذبح أوزير؟ ستدفن بلا مراسم أو طقوس ترتَّل، ويصير لوحك الجنائزى منسيًا كأسماء الأعداء!».

بعد ذلك تنتقل الروح من مرحلة التهديد من خطر الانتحار إلى النصح بقولها: «استمع إلى نصح رفيق عمرك: ليتك تبنى لنفسك قبرًا من الحجر! ليتك تزرع أشجارًا لتظلل على أحفادك! اصبر! فإن الشمس تشرق بعد ظلام الليل، والموت حتمًا سيأتى كفيضان النيل».

هنا يتحدث اليائس من الحياة عن مرارة العيش فى مجتمع على حافة الانهيار بعد أن فقد قيمه وتفكك، وانهارت كل المعتقدات التى كانت راسخة لآلاف السنين. ويشكك الرجل فى جدوى الطقوس الجنائزية التى تقام للمتوفى بعد أن انتهكت حرمة المقابر ونُبشت القبور، ولم تُجدِ الطقوس الجنائزية والتمائم والتعاويذ فى حماية الموتى أنفسهم، وذلك ردًا على كلام روحه: «انظري! بناة القبور الفاخرة صاروا تحت التراب! وبناء المعابد يرقدون بجوار الفقراء فى حقول الإله! تلك التماثيل العظيمة صارت كالخراب المغبر، وأسماء الملوك طواها النسيان كسحب فى ريح الصحراء... ما نفع قبر شامخ إذا صار صاحبه طعامًا للدود فى ظلمة الأرض؟! وأين قرابين الأبناء التى وُعدنا بها؟ أما اللوحات الجنائزية المذهبة فقد سُرقت وصارت أدراجًا لبيوت اللصوص! لقد نسينا من مات، ومن يذكرنا فسيموت! اسمعى يا روحي! وحده الموت صياد عادل، لا يُبقى على أمير.. ولا يرحم عبدًا فقيرًا».

تستمر الروح فى مراودة صاحبها لتثنيه عن أفكاره المتشائمة وتحثه على العودة إلى حب الحياة فتقول: «لا تكن كتمساح يئن فى الوحل! فأنت إنسان خلقك الإله لتعى أسرار الوجود!... اطرح همومك كما يطرح الثوب المخرق! تمسك بالحياة كما يمسك الطفل بإصبع أبيه، عش لترى زهر اللوتس يتفتح كل صباح، واسمع غناء الصيادين عند الغروب... وعندما يأتيك الموت حتمًا فى النهاية كضيف شبع من الوليمة، سأحملك على جناحى كطائر الفينيق إلى عالم الخلود!».

يبدو أن الروح قد استطاعت فى النهاية إقناع صاحبها بأن الانتحار لا جدوى منه، وأن الحياة رغم الألم تستحق أن نتمسك بها. ويهمنا هنا التأكيد على أن هذا الحوار الفلسفى العبقرى بين إنسان وروحه أو ضميره الإنسانى يعد أقدم نموذج فلسفى لحوار بين إنسان وذاته من العالم القديم، لم يقتصر فقط على تشخيص المشكلة، بل تعدى ذلك إلى اقتراح العلاج من الاكتئاب النفسى، مقدمًا الحلول المقنعة للخروج من الاكتئاب. لذلك لا نغالى إذا قلنا إن مبادئ علم النفس والطب النفسى بدأت فى مصر القديمة التى ستظل تبهرنا كل يوم نكشف فيه عن جديد من أسرار الفراعنة.

 

arabstoday

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 11:50 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

النار في ثياب ترامب

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 11:07 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

التاريخ والجغرافيا والمحتوى

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 10:56 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

حلم المساواة

GMT 10:24 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عرفان وتقدير

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الانتحار في زمن الفراعنة الانتحار في زمن الفراعنة



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة
 العرب اليوم - إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 22:12 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مجلس الأمن يرفع العقوبات عن الرئيس السوري ووزير الداخلية
 العرب اليوم - مجلس الأمن يرفع العقوبات عن الرئيس السوري ووزير الداخلية

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة
 العرب اليوم - الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 العرب اليوم - ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

سجن إلهام الفضالة بسبب تسجيل صوتي

GMT 21:03 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير هاري يبعث رسالة خاصة لأبناء بلده من كاليفورنيا

GMT 04:36 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير إسرائيلي يدعو لمناقشة تعاظم قوة الجيش المصري

GMT 22:11 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة

GMT 05:00 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تعلن تسلمها رفات رهينة ونقله إلى معهد الطب الشرعي

GMT 10:13 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

ابتكار جديد يعيد للأسنان التالفة صحتها دون الحاجة إلى جراحة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab