من روائع أبي الطيب 42

من روائع أبي الطيب (42)

من روائع أبي الطيب (42)

 العرب اليوم -

من روائع أبي الطيب 42

بقلم - تركي الدخيل

وَكُنَّا بَيَّنَّا في الحَلْقَةِ الماضِيةِ أَنَّ مِن مَزَايَا شِعرِ أَبِي الطَّيِّبِ؛ إِرسَال المَثَلِ في أَنصافِ الأبياتِ. ونُواصِلُ في هذه الحَلْقَةِ استِعرَاضَ بَعْضِ أَعْجَازِ أَبياتِ المُتَنَبِّي، الَّتِي ذَهَبَتْ أَمثالاً سَائِرَةً.

(122) ومَا خَيرُ الحَيَاةِ بِلَا سُرُورِ
(مَا) فِي بَيْتِ القَصِيدِ؛ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، فَالمَعْنَى: أَيُّ خَيْرٍ فِي الحَيَاةِ، إِذَا كَانَتْ بِلا سُرُورٍ؟!
وَهُوَ سُؤَالٌ لَا يَنْتَظِرُ الشَّاعِرُ إِجَابَتَهُ، لِأَنَّ الجَوَابَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، وَهُوَ: لَا خَيْرَ فِي الحَيَاةِ بِدُونِ سُرُورٍ.
وَلَقَدْ أَكَّدَ كَثِيرُونَ أَنَّ حَيَاةَ الحَزِينِ مَوْتٌ، وَإِذَا خَلَتِ الحَيَاةُ مِنَ البَهْجَةِ لَمْ تَكُنْ حَيَاةً.
وَلِذَلِكَ كَانَ شَطْرُ بَيْتِ المُتَنَبِّي، يُقَرِّرُ -وَلَوْ كَانَ سُؤَالاً- أَنْ لَا خَيْرَ فِي حَيَاةٍ بِلا سُرُورٍ، وَحَيَاةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا، لَيْسَتْ بِحَيَاةٍ.
قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ، عَنْ بَيْتِ القَصِيدِ:
يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ القَائِلِ:
غَيْرُ مَأْسُوفٍ عَلَى زَمَنٍ * يَنْقَضِي بِالهَمِّ وَالحَزَنِ
قُلْتُ:
البَيْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ وَكِيعٍ، هُوَ لِأَبِي نُوَاسٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الزَّمَنَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هَمٌّ وَحَزَنٌ، لَا يُؤْسَفُ عَلَيْهِ، وَالزَّمَنُ هُوَ الحَيَاةُ، وَمَا لَا يُؤْسَفُ عَلَيْهِ لَا خَيْرَ فِيهِ.
وَالمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مُتَشَابِهاً، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مُتَطَابِقاً، فَقُرْبُ بَيْتِ أَبِي نُوَاسٍ مِنْ بَيْتِ أَبِي الطَّيِّبِ، لَا يَجْعَلُ هذَا البَيْتَ مِنْ ذَاكَ، وَإِلَّا لَنَدَرَ وُجُودُ بَيْتِ شِعْرٍ لَا يَقْرُبُ مِنْ غَيْرِهِ!

(123) كُلُّ مَا يَمْنَحُ الشَّرِيفُ شَرِيفُ
كُلُّ: جَمِيعُ. 
مَا يَمْنَحُ: «مَا» اسْمٌ مَوْصُولٌ مَعْنَاهُ: الَّذِي. 
وَيَمْنَحُ: أَي يُعْطِي وَيَهَبُ. فَالمَعْنَى: الَّذِي يُعْطِيهِ. 
الشَّرِيفُ: (ش ر ف): أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى العُلُوِّ وَالارْتِفَاعِ. 
وَالشَّرِيفُ: صِفَةٌ مِنْ «شَرُفَ» كَـ«كَرُمَ»، فَهُوَ شَرِيفٌ، وَهُوَ النَّبِيلُ، عَالِي المَنْزِلَةِ، سَامِي المَكَانَةِ، رَفِيعُ الدَّرَجَةِ، ذُو الأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ، الَّذِي يَأْنَفُ الدَّنَايَا. وَهُوَ الرَّجُلُ الْعَالِي. وَرَجُلٌ شَرِيفٌ مِنْ قَوْمٍ أَشْرَافٍ. والشَّرَفُ: هُوَ العُلُوُ والمَجدُ والرِّفعَةُ. ومُحَرِّكُهُ: عُلُوُ القَدرِ والمَجدِ. وَجَمعُ شَرِيفٍ شُرَفَاءٌ وَأَشرَافٌ. وَأَشرَافُ القَومِ عِليَتُهُم وَسَادَتُهُم.
إِنَّ عَطَايَا الشَّرِيفِ شَرِيفَةٌ مِثْلَ مُعْطِيهَا، وَهَدَايَا الكَرِيمِ مُتَصِفَةٌ بِكَرَمِهِ، وَهِبَاتُ العَزِيزِ عَزِيزَةٌ. 
وَالشَّرِيفُ مُمتَلِئٌ شَرَفاً، تَغْلِبُهُ طِبَاعُهُ، وَمَا يَمْنَحُهُ الشَّرِيفُ بَعْضُ شَرَفِهِ، فَبَعْضُ شَرَفِ الشَّرِيفِ شَرِيفٌ.
(124) إِنَّ النَّفِيسَ غَرِيبٌ حَيثُمَا كَانَا
النَّفِيسُ: هُوَ العَزِيزُ، الغَالِي، الثَّمِينُ، وَكُلُّ مَا يُضنُّ بِهِ، أَيْ يُبْخَلُ بِهِ، لِارْتِفَاعِ قِيمَتِهِ.
غَرِيبٌ: الغَرِيبُ مِنَ الكَلَامِ: هُوَ الغَامِضُ، غَيْرُ الوَاضِحِ، البَعِيدُ مِنَ الفَهْمِ، وَكَذَا الغَرِيبُ مِنَ النَّاسِ، إِنْ كَانَ مَعْرُوفاً، فَغُرْبَتُهُ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَأْلُوفٍ، وَغَيْرَ مَعْقُولٍ، أَوْ غَيْرَ مَفْهُومٍ، ذُو طَبْعٍ يَصْعُبُ فَهْمُهُ. وَالغَرِيبُ مِنَ النَّاسِ هُوَ غَيْرُ المَعْرُوفِ، وَالبَعِيدُ عَنِ الوَطَنِ، المُنْقَطِعُ عَنِ الأَهْلِ.
وَالمَعْنَى: أَنَّ الثَّمِين الغَالِي غَرِيبٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي وَطَنِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ.
فَأَمَّا غُرْبَتُهُ فِي وَطَنِهِ، فَهِيَ غُرْبَةُ مُشَاكَلَةٍ وَمُمَاثَلَةٍ؛ فَلَا يَجِدُ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُشَاكِلُهُ فِي هَمِّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَيَسْتَنْكِرُهُ النَّاسُ، فَيَكُونُ غَرِيباً.
كَمَا أَنَّ النَّاسَ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَهُ، فَيَصِيرُ غَرِيباً بَيْنَهُمْ.
وَبِذَلِكَ، يَكُونُ الثَّمِينُ العَزِيزُ، بَيْنَ أَهْلِهِ غَرِيباً، فَإِذَا اغْتَرَبَ زَادَتْ غُرْبَتُهُ.
قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
غَرَّبَتْهُ العُلَا عَلَى كَثْرَةِ الأَهْلِ * فَأَضْحَى فِي الأَقْرَبِينَ جَنِيبَا
فَلْيَطُلْ عُمْرُهُ، فَلَوْ مَاتَ فِي مَرْوَ * مُقِيماً بِهَا، لَمَاتَ غَرِيبَا
قَالَ الجُرْجَانِيُّ فِي (الوَسَاطَةِ)، بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ بَيْتَ المُتَنَبِّي وَبَيْتَ أَبِي تَمَّامٍ:
«وَبَيْتُ أَبِي الطَّيِّبِ أَجْوَدُ وَأَسْلَمُ، وَقَدْ أَسَاءَ أَبُو تَمَّامٍ بِذِكْرِ المَوْتِ فِي المَدِيحِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ؛ وَالمَعْنَى لَا يَخْتَلُّ بِفَقْدِهِ، وَمَنْ مَاتَ فِي بَلَدِهِ غَرِيباً، فَهُوَ فِي حَيَاتِهِ أَيْضاً غَرِيبٌ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي اسْتِقْبَالِ المَمْدُوحِ بِمَا يَتَطَيَّرُ مِنْهُ!».
وَلَيْسَ صَحِيحاً قَوْلُ بَعْضِهِم: إِنَّ بَيْتَ أَبِي الطَّيِّبِ هُوَ مِنْ بَيْتِ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ، القَائِلِ:
لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ إِلَّا مَاجِدٌ شَرِسٌ * إِنَّ النَّفِيسَ نَفِيسٌ حَيْثُمَا كَانَا
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ بَيْتَ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الكَلْبِيِّ لَيْسَ كَمَا سَبَقَ، بَلْ هُوَ كَمَا فِي دِيوَانِهِ، وَكَمَا أَوْرَدَهُ البُحْتُرِيُّ فِي حَمَاسَتِهِ:
لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ إِلَّا مَاجِدٌ بَطَلٌ * إِنَّ الكَرِيمَ كَرِيمٌ حَيْثُ مَا كَانَا
وَفِي الدِّيوَانِ (ص 108)، جَاءَ عَجُزُ البَيْتِ بِلَفْظَةِ: (أَيْنَمَا) بَدَلاً مِنْ (حَيْثُ مَا)، عَلَى هذَا النَّحْوِ:
إِنَّ الكَرِيمَ كَرِيمٌ أَيْنَمَا كَانَا
فَلَيْسَ فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ المُتَنَبِّي، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْهُ؟!

arabstoday

GMT 16:36 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

ملكة القنوات

GMT 16:36 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

السعودية وباكستان و«ضربة معلم»

GMT 16:35 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

نقش «سلوان» وعِراك التاريخ وشِراكه

GMT 16:33 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

السعودية وباكستان... تحالف جاء في وقته

GMT 16:31 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

أين تريد أن تكونَ في العام المقبل؟

GMT 16:30 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

افتح يا سمسم

GMT 16:29 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

مأزق الليبرالية البريطانية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من روائع أبي الطيب 42 من روائع أبي الطيب 42



البدلة النسائية أناقة انتقالية بتوقيع النجمات

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 11:05 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

شيرين عبد الوهاب أمام القضاء بتهمة السبّ والقذف

GMT 03:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 06 سبتمبر/ أيلول 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab