سَلْمٌ الخاسِر و «بي بي سي»

سَلْمٌ الخاسِر و «بي بي سي»!

سَلْمٌ الخاسِر و «بي بي سي»!

 العرب اليوم -

سَلْمٌ الخاسِر و «بي بي سي»

بقلم : تركي الدخيل

 

وَسَلْمٌ الخَاسِرُ، هو ابنُ عمرو بنِ حمَّاد، مولَى بنِي تيم بن مُرَّةَ، ثمَّ مولَى آلِ أبي بكرٍ الصّديق، وَهوَ شاعرٌ عبَّاسِيٌ، بصريٌ، مطبوعٌ، مَدحَ الخُلفَاءَ، تُوُفّيَ فِي خِلَافةِ الرَّشِيدِ، سنةَ 186هـ، (802 م).

نقلَ الأصْفَهَانِي فِي «الأغَانِي» عَن أَحَدِ مُعَاصِرِي سَلم، أنَّه دَخلَ عَليهِ يَوماً، وإذَا بينَ يَديهِ قَرَاطيسُ فيهَا مَراثٍ لِشخصيَّاتٍ عَامَّةٍ لم تَمُتْ حينَهَا! فَقَالَ لَهُ: وَيحَك مَا هَذَا؟ فَردَّ الخَاسِرُ، بِقَولِهِ:

«تَحدُثُ الحَوادثُ فَيُطالبونَنَا، بأنْ نَقولَ فِيهَا، وَيَستعجلُونَنَا، وَلَا يَجْمُلُ بِنَا أنْ نَقولَ غَيرَ الجَيّدِ، فَنُعِدُّ لَهمْ هَذَا قَبلَ كَونِهِ، فَمَتَى حَدَثَ حَادِثٌ أظْهرْنَا مَا قُلناهُ فيهِ قَدِيماً، عَلَى أنَّهُ قِيلَ فِي الوَقْت»!

يَبدُو جَوابُ سَلم الخَاسِر جَافّاً، خَالياً مِنَ الإنسَانيَّة، لَكِنَّه كَانَ يعْمَلُ قبلَ أكثرَ من 12 قرناً بأسلُوبٍ تَعمَلُ بِهِ وَسَائلُ الإعلَامِ المُحترفةُ اليَوم.

حَدَّثنِي صِحَافِيٌ فِي «بي بي سي»، أنَّ الهيئةَ الإخباريةَ البريطانية، كانت تدرِّبُ كوادرَها مِنْ صحافيينَ ومُذيعينَ، علَى إذاعةِ خبرِ وفاةِ المَلِكةِ الرَّاحلةِ إليزابيث الثَّانية، التِي تُوفيت فِي سِبتمبرَ (أيلولَ) مِنْ عامِ 2022، عن 96 عاماً، قضتْ منهَا سبعينَ عاماً، مَلِكةً للمملكةِ المتحدة. وَكَانتْ هذهِ التَّدريباتُ تَتضمَّنُ التَّعاملَ معَ خبرِ وفاةِ الملكةِ خلالَ حياتِهَا، باعتبارِه وَقعَ، وتنفيذَ نشراتٍ وتقاريرَ عن رَحيلِ المَلكةِ كَمَا لَوْ كَانَ الأمرُ حَقيقةً، كُلُّ ذلكَ فِي حَياتِهَا، لَا سِيَّمَا فِي العُقودِ الثَّلاثةِ الأخيرةِ مِنْ حَياةِ المَلكةِ الرَّاحِلَةِ.

هذهِ الاحترَافيةُ العَمليَّةُ مِنْ سَلمِ الخَاسِر، لمْ تَقتصرْ عَلَى كِتَابَةِ رثاءٍ فِي الأحْيَاء، لِيكونَ الشَّاعرُ جَاهزاً لتَِأبينِهمْ إذا مَاتُوا، بلْ تجاوزتْهَا إلَى مَعالمَ كثيرةٍ!

وكان سَلم لُقِّب بالخاسر، لأنَّ أَبَاهُ خلَّفَ لهُ مالًا بعد وفاتِه، فأنفقَهُ علَى الأدبِ، فقالَ لهُ بعضُ أهلِه: إنَّك لَخَاسرُ الصفقة، فلُقِّب بذلكَ.

ثُم مَدَحَ سَلمُ الخَاسرُ، الخليفةَ العباسيَّ هارونَ الرَّشيدَ، فأمرَ له بمائةِ ألفٍ درهمٍ، وقالَ لهُ: كَذِّبْ بِهذَا المَالِ مَنْ لقَّبَكَ بِالخَاسر. فجاءَهمْ بهَا، وقَالَ: هذَا مَا أنفقتُهُ علَى الأدَبِ، ثمَّ ربَحْتُ الأدبَ، فأنَا سَلْمٌ الرَّابحُ لَا سَلمٌ الخاسرُ، كَمَا ذكرَ ياقوتُ في «معجم الأدباء».

شُهِد لسَلمٍ بالتَّفوُّقِ فِي مَعرفةِ أشعارِ الجَاهِلِيّينَ، وَكَانَ سَلمٌ تلميذاً وَراويَةً لبَشَّارِ بنِ بُردٍ، وَصديقاً لأبِي العَتَاهِية، فَلَمَّا قالَ بشارٌ قَصيدتَه، التِي يقولُ فيهَا:

مَنْ رَاقبَ النَّاسَ لَمْ يَظفَرْ بِحَاجتِهِ

وَفَازَ بِالطّيّبَاتِ الفَاتِكُ اللَّهِجُ

قَالَ سَلْمٌ أبْيَاتاً أدخَلَ فيهَا مَعنَى هذَا البيتِ، ومنهَا:

مَنْ راقبَ النَّاسَ مَاتَ غمّاً

وَفَازَ بِاللَّذةِ الجَسُورُ

فَبلغَ بيتُه بشَّاراً فَغَضِبَ، وَقالَ: سَارَ وَاللهِ بيتُ سَلمٍ وخَمَلَ بيتُنَا.

وهذَا مَا حدثَ، فبيتُ سَلمٍ سَهلُ اللَّفظِ سَلِسُ النُّطقِ، خالٍ من التَّكلفِ، ممَّا جعلَه أقربَ للنَّاسِ، ولذلكَ لَهجَ النَّاسُ بِبيتِ سَلم، وَلم يُنشِدْ بيتَ بشارٍ أحدٌ، فكانَ ذلكَ سبباً في النُّفورِ بينَهُمَا، لكنَّ سَلماً واصلَ رحلةَ صعودِهِ، وتقديمِه مُنتَجَهُ بِشكلٍ سَهْلٍ يَسيرٍ، يَقعُ مِنْ نفوسِ المُتلقّينَ موقعَ القَبُولِ.

وذُكِر مِنَ اقتدارِ سَلمٍ الخاسرِ علَى الشّعرِ، أنَّه اخترعَ شِعراً علَى حَرفٍ وَاحدٍ، ولمْ يُسبَقْ إلَى مثلِ ذَلكَ، لأنَّ أقلَّ شِعرِ العَربِ عَلَى حرفينِ، نحوَ قولِ دُريد بنِ الصِّمَّة:

يَا ليتنِي فيهَا جَذَعْ

أخُبُّ فيهَا وأضَعْ

فَقالَ سَلمٌ الخَاسرُ لِأميرِ المُؤمنينَ مُوسَى الهَادِي شِعراً علَى ضَربٍ وَاحِدٍ منهُ:

موسى المطر غيثُ بكَرْ

ثم انهمرْ لما اغتفرْ

ثم غفرْ لما قدرْ

ثم اقتصرْ عدل السير

باقي الأثرْ خير البشرْ

فرع مضر بَدرٌ بَدَرْ

لمن نظرْ هو الوزرْ

لمن حضرْ والمفتخرْ

قالَ ابنُ المعتز: كانَ سَلمٌ مزَّاحاً لطيفاً، مدَّاحاً للملوكِ والأشرافِ، وكانُوا يُجزلونَ له الثوابَ والعطيةَ، فيأخذُ الكثيرَ ويُنفِقُه علَى إخوانِه. وغيرِهمْ مِنْ أهلِ الأدَبِ.

arabstoday

GMT 08:20 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

جبر.. وفن الحوار

GMT 08:15 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

خطوة بحجم زلزال

GMT 08:07 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

كوزموبوليتانية الإسلام السياسي

GMT 07:58 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

بور سعيد «رايح جاي»!

GMT 07:51 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

سيدة الإليزيه!

GMT 07:43 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

الأسئلة الصعبة؟!

GMT 07:31 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

العودة إلى الميدان!

GMT 07:22 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

إبادة شاملة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سَلْمٌ الخاسِر و «بي بي سي» سَلْمٌ الخاسِر و «بي بي سي»



البدلة النسائية أناقة انتقالية بتوقيع النجمات

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 05:11 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل والزمن

GMT 06:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 04:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ترامب يفرض رسومًا جديدة للحصول على إتش- 1 بي

GMT 13:52 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

هل يوقظ شَيْبُ عبدالمطلب أوهام النتن ياهو ؟!

GMT 03:19 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab