كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا!

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا!

 العرب اليوم -

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا

بقلم : تركي الدخيل

أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الْأَمْوالَ مَكْرُمَةً

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

قبلَ أن أختارَ بيتًا من الشّعر لأكتبَ عنه، كانَ البيتُ يخطرُ فِي ذهنِي مرةً، ثم يُبعدُه تزاحمُ غيرِه منَ الأمورِ فِي الذّهنِ، وربَّما يقعُ البيتُ من نفسِي موقعاً يجعلُه يتقافزُ مراتٍ؛ مرةً إلى داخلِ الذّهنِ، وأخرَى إلى خَارجِه. لكنَّ هذَا البيتَ استقرَّ بِمُجرّدِ مطالعتِه سريعاً.

ولأنَّ قدرَ مثلِ هذَا البيتِ الاستقرارُ، كانَ أوَّلَ ما قرأتُ فيه، قولُ شيخِ العَربية، أبِي الفتحِ عثمانَ بنِ جنّي، في «الفسرِ الكبِيرِ في شرحِ ديوانِ المتنبّي»، إذْ قالَ تعليقاً علَى البَيتِ: «كَذَا واللهِ يَشْعُرُ النَّاسُ، وإلَّا فَلْيَخْرُسُوا»!

لمْ يكنْ ابنُ جنّي، رَحمهُ اللهُ، يجامِلُ في إعلانِ إعجابِه الكبيرِ، بِشعرِ أبِي الطّيب المتنبّي، ومقولتُه هذهِ تأتِي ضمنَ صدقِه في بيانِ الإعجَابِ.

هناكَ مَنْ روَى البيتَ بِهمزِ «السُّؤَّال»، واختارَ ابنُ جني وغيرُه روايتَه تخفيفًا بحذفِ الهمزةِ (السُّوَّال): وهو جمعُ السَّائلِ (الطَّالب الفقير).

سَبَكَ: الذَّهبَ وَالْفِضَّةَ وَنَحْوَهما مِنَ الذَّائِبِ يسبُكهُ ويسبِكُه سَبْكًا وسَبَّكه: ذَوَّبه وَأَفْرَغَهُ فِي قالبٍ. وسَبِيكَة: قِطْعة مُذابة من الذَّهبِ أو الفضةِ في قالبٍ محدَّدٍ بحسبِ الوزنِ، والجمعُ: سَبائك.

الأموالُ: جمعُ مالٍ، وهوَ مَا ملكتَه من جميعِ الأشياءِ. والمالُ فِي الأصلِ الذَّهبُ والفضةُ، ثمَّ أُطلقَ على كلّ مَا يُملَك ولَهُ قيمةٌ، وكَانتِ العَربُ تُسمّي الإبلَ مالًا لقيمتِهَا عندَهم.

واختَارَ الشَّاعِرُ الحَديثَ عَنِ السَّبكِ، وَهوَ سَبكُ الذَّهبِ والفِضَّةِ، لأنَّهُ الأَصْلُ فِي المَالِ كَمَا سَبَقَ.

وهُنَاكَ مَنْ يَرَى أنَّ المالَ سُمِّيَ مالًا لأنَّ النَّاسَ تَميلُ إليهِ. وإذَا كَانَ الأمرُ كَذلكَ، إذن فَالأَحرَى أنْ يُسَمَّى المُمِيلَ.

خَزن: خَزَنَ الشَّيءَ يَخْزُنُه خَزْنًا، واخْتَزَنَه: أَحْرَزه وَجَعَلَهُ فِي خِزانةٍ وَاخْتَزَنَهُ لِنَفْسِهِ. والخِزَانةُ: اسْمُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءِ. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ». والخِزَانَةُ: عَمَلُ الخَازِن. والمَخْزَن، بِفَتْحِ الزَّايِ: مَا يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءُ. والخِزانَةُ: وَاحِدَةُ الخَزائن. (لسان العرب).

وهُوَ اسمُ مَكانٍ. وخُزَّانْ: جمع خَازِن، وهو القَائمُ علَى حِراسَةِ الخِزَانَة.

والمَعنَى: أنَّ الشَّاعِرَ يُخاطِبُ مَمْدُوحَهُ، فَيقولُ لَه: أنتَ الّذِي سَبكَ الأَموَالَ بِجمعِهَا وتَنمِيتِهَا ومُضاعَفتِهَا، وذلكَ مَكرمةٌ منكَ. و«المَكْرُمَة»: فِعلُ الكَرَمِ، وهي مفردُ المكَارِم، فَسبكَ المَمدوحُ الأَموالَ من كَرمِه فَهوَ كَمَنْ سَبكَ الأَموالَ لِيُكرمَ بهَا غيرَه، ويُثبتُ ذلكَ مَا جَاءَ بعدَ ذَلكَ.

فِي عَجزِ البَيتِ يقولُ المُتَنبّي:

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

أيْ: بعدَ أنْ وفَّرتَ الأموالَ وصَنعتَها وضَاعفتَها، اخترتَ مَنْ يقومُ علَى حراستِهَا ومراقبتِهَا، وهمْ ذوو الحَاجاتِ وأهلُ السُّؤالِ مِنَ الفقراءِ، والمُرادُ أنَّكَ وزَّعتَها عَليهمْ من بَالغِ الكَرمِ والسَّخَاءِ.

إنَّ أهلَ الثرواتِ والأموالِ يُخزّنونَ أموالَهم للمحافظَةِ عليهَا، وضَمانِ ألَّا يمسَّها أحدٌ، وألَّا يصيبَها نقصانٌ ولا ضَررٌ، لكنَّ ممدوحَ المُتنبّي الذِي إنَّمَا سَبكَ الأموالَ واصطنعَهَا لأجلِ كرمِه، يختارُ حُراساً لأَموالِه، منَ الفقراءِ الذينَ تضطرُهم الحَاجةُ لِسؤالِ العَطاءِ، وكَأنَّ الممدوحَ يؤمنُ بأنَّ بقاءَ المَالِ في العَطاءِ، والتَّعبير عَنْ كرمِ المَمدوحِ بهذَا المَعنَى مِنْ بَلاغةِ أبِي الطَّيبِ المُتنبّي.

لَا غَرابةَ فِي تَعليقِ ابنِ جِنّي، علَى قولِ المُتنبّي:

أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الَأمْوالَ مَكْرُمَةً

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

بِالفِعلِ... كَذَا فَليكنِ الشّعرُ، وإلَّا فَلَا.

arabstoday

GMT 08:20 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

جبر.. وفن الحوار

GMT 08:15 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

خطوة بحجم زلزال

GMT 08:07 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

كوزموبوليتانية الإسلام السياسي

GMT 07:58 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

بور سعيد «رايح جاي»!

GMT 07:51 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

سيدة الإليزيه!

GMT 07:43 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

الأسئلة الصعبة؟!

GMT 07:31 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

العودة إلى الميدان!

GMT 07:22 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

إبادة شاملة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا



البدلة النسائية أناقة انتقالية بتوقيع النجمات

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 05:11 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل والزمن

GMT 06:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 04:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ترامب يفرض رسومًا جديدة للحصول على إتش- 1 بي

GMT 13:52 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

هل يوقظ شَيْبُ عبدالمطلب أوهام النتن ياهو ؟!

GMT 03:19 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab