كان من أصدقاء رحلتى ،عرفته وأنا طالب فى جامعة القاهرة ،وكان أستاذًا فى كلية الحقوق ،يُلقى محاضرات فى كلية الآداب.. كنا نحرص على حضور محاضرات د. مفيد شهاب فى القانون الدولى ،ود. يحيى الجمل فى الإدارة المحلية.. كان اللقاء الأول بيننا فى ساحة محاضرات الكلية، وكان – كعادته – يقترب كثيرًا من شواطئ السياسة رغم ما كان يحيط بها من مخاطر..
ــــ كنت كثير النقاش مع د. يحيى الجمل، وكانت تركيبته عجيبة؛ فهو يحترف القانون، ونصفه الآخر فنان، كان يمكن أن يبدع فى أى ساحة دخلها.. كان يحيى الجمل يخصص وقتًا طويلًا ،ربما امتد إلى المحاضرة كلها، فى حوار حول قضايا المجتمع ،وأحيانًا كان يفضل أن يُلقى حجرًا فى المياه الراكدة.. كان طاقة متجددة فى الفكر والسلوك وخاض فى حياته تجارب كثيرة ما بين السلطة والقرار والأضواء والمحاكم والقضايا والأحكام، بدأ مشواره الطويل فى النيابة ثم التحق بالجامعة مدرسا وأستاذا حتى أصبح عميدا لكلية الحقوق جامعة القاهرة والتى خرج منها جثمانه ساعة الرحيل..
ـــــ اقتربنا أكثر بعد أن التحقت بالأهرام، وكنت أزوره فى كلية الحقوق أو فى مكتبه بمؤسسات الدولة المختلفة. كان يحيى الجمل إنسانًا حالِمًا، كثيرًا ما شاركنا أحلامه، وكان يؤمن بقضية الحرية وحقوق الإنسان، ويُعلن ذلك صراحة فى مدرجات الجامعة.. كان يمثل جيلًا جديدًا من أساتذة الجامعات أكثر انفتاحًا، ولم يقطع علاقته بالسلطة، وكان لديه طموح أن يشارك فى منظومة الإصلاح والبناء.. لم يختلف كثيرًا مع ثورة يوليو وزعيمها، ولكننى لا أذكر أنه كان من الحواريين الذين شاركوا فى أسطورة «منظمة الشباب» أو «التنظيم الطليعي»، تلك المنظمات الرسمية التى صنعت صورة الثورة، رغم أن عددًا كبيرًا من أساتذة الجامعات شاركوا فى هذه المهمة.. امتدت العلاقة بيننا، وجمعتنا أحداث وذكريات كثيرة.. كنت أتابع يحيى الجمل وهو يتنقل بين شواطئ أحلامه، بعضُها تحقق فى منصب أو سلطة، لكنه بقى على عهده مخلصًا لأحلامه فى التغيير والإصلاح.. لم يكن ممن يرفض أو يقبل علنًا، بل اكتفى بأن يبقى أستاذ الجامعة، وابتعد قليلًا عن الأضواء.
ــــ كان يحيى الجمل مثقفًا واسع الأفق، تنوعت مصادر ثقافته؛ فهو رجل قانون من طراز رفيع، وقارئ جيد لكل مصادر الثقافة، وفنان يختبئ خلف عباءة القانون.. كنا نلتقى كثيرًا ونتحاور فى شئون الحياة كافة : سياسة وأدبًا وأحلامًا.. بقى مخلصًا لقضايا الحرية وحق الإنسان فى حياة كريمة، وتحفّظ على الإجراءات القمعية ضد نخبة المثقفين الذين أطاحت بهم ثورة 1952 فى مراحلها المختلفة.. واجه تحديات كثيرة فى مشواره، لكنه احتفظ بتقدير عالٍ من رموز الثقافة المصرية .. مارس العمل السياسى فى كل مراحله طوال ستين عاما واختلف مع أكثر من حكومة وعمل فى أكثر من منصب .. خاض الدكتور الجمل معارك كثيرة مدافعا عن الحريات والدستور وكرامة المصريين، وكان يتصور أنه قادر على أن يحقق بعض أحلامه وهو قريب من سلطة القرار، ولهذا وافق أن يكون وزيرا أكثر من مرة، ولكنه كان يكتشف دائما بعد أن يرحل عن المنصب أن السلطة شىء والأحلام شىء آخر.. وكانت له معركة ضارية مع التعديلات الدستورية التى سبقت ثورة يناير وهاجم بعنف برلمان 2010 وكان ضد قضية التوريث ولم يتردد أن يعلن رأيه فيها بكل صراحة، وهاجم حكم الإخوان وكان يرى أن وصولهم للسلطة كان أكبر كارثة فى تاريخ مصر الحديث.. وعندما قامت ثورة يناير، كان لديه قناعات لم يُفصح عنها، ورغم ذلك وافق أن يكون وزيرًا فى وزارة عصام شرف فى عهد المجلس العسكرى.. يومها فوجئت به يطلبنى، ويخبرنى بأنه تم ترشيحى لرئاسة مجلس إدارة الأهرام ورئيسًا للتحرير، والتقينا، ووجدت أمامى صورة القرار. قلت له: «د. يحيى، أنت صديقى ،وتعلم أن هذا المنصب كان حلمى منذ عشرين عامًا، وكنت أستحقه، لكن سبقنى قطار العمر». ويومها رشحت له زميلى وصديقى لبيب السباعى، وقد حدث ذلك بالفعل..
ــــ عندما عرضت مسرحيتى «الوزير العاشق» مع عبد الله غيث وسميحة أيوب، دعوته ليشاهد المسرحية، ويومها كتب مقالًا بديعًا عنها فى المصرى اليوم.. وحين ثارت ضجة حول قصيدتى «هذه بلاد لم تعد كبلادي» كتب مقالًا مؤيدًا للقصيدة، وكثيرًا ما ظهرنا معًا فى التليفزيون فى صحبة أنيس منصور، ورجاء النقاش، وسمير سرحان، وإبراهيم المعلم.. كان يحيى الجمل كاتبًا يتمتع بعبارة جميلة وأسلوب رائع، وكثيرًا ما شارك بقلمه فى حوارات اتسمت بالصراحة دون حسابات لأحد.. دعانى يومًا على العشاء فى بيته، وأذكر أن د. حازم الببلاوى – رئيس الوزراء الأسبق – كان على رأس الحاضرين.. كان د.يحيى يمهد لإنشاء حزب الجبهة الوطنية، وطلب منى أن أكون من المؤسسين، فقلت له: «ليس لى فى عالم الأحزاب»، واعتذرت..
ــــ وكانت للدكتور يحيى مؤلفات كثيرة، أبرزها مذكراته بعنوان «قصة حياة عادية» وتضمنت العديد من المواقف منذ نشأته وعمله، وآرائه السياسية، سلط الضوء فيها على القراءات التى حمسته لدراسة القانون وكانت سببا فى حبه لمهنة المحاماة فيما بعد، فيقول إن حبه للتاريخ وشغفه بقراءته يرجع إلى تجربته الأولى مع كتاب «المآسى التاريخية الكبري» وكان يدور حول أحداث الثورة الفرنسية بطريقة روائية بالغة التشويق، الذى جعله يعيش أحداث الثورة الفرنسية الدامية ومحاكماتها الشهيرة على نحو لم يغادر مخيلته».
فى الحياة السياسية كانت له مجموعة من المقالات فى الصحف المصرية والعربية، واشتهر بالعديد من المواقف والمقالات السياسية الجريئة، منتقدا النظام السابق، أصدر العديد من المؤلفات السياسية، والقانونية، أبرزها: «الأنظمة السياسية المعاصرة»، «النظام الدستورى فى مصر»، «القضاء الإدارى»، «القضاء الدستورى»، «نظرية التعددية فى القانون الدستورى» ، حماية القضاء الدستورى للحق فى المساهمة للحياة العامة، وحصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة..
ــــ بقيت جسور المودة بيننا، وكثيرًا ما كنا نلتقى فى شهور الصيف فى الساحل الشمالى، حيث كانت جلساته تجمع الأصدقاء والمريدين، وتدور فيها المناقشات بين رموز النخبة.. بقى يحيى الجمل قصة من قصص العطاء والصدق والأصالة.. وفى مذكراته التى حكى فيها أجزاء من مشواره الطويل اقترب كثيرا من هموم مصر وشعبها وظل حتى آخر لحظات حياته وهو يحلم بمستقبل أكثر حرية ورخاء وكرامة.. فى آخر أيامه، كان الجسد متعبًا بعد مشوار طويل من معارك الفكر والإصلاح والمرض جعله ينسحب فى هدوء لبيته.
كنا أصدقاء حتى آخر محطات العمر، وكنت أحمل له مشاعر حب وتقدير، فقد كان إنسانًا محبًا للحياة، عاشقًا للجمال، راهبًا فى رحاب الفكر والفن والإبداع..
..ويبقى الشعر
ماذا تبيعُ الآنَ فى هَذا المزادْ؟
هذا القلمْ
أسكنتهُ عيْنى..وحَلقَ فى سَمَاءِ النـِّيلِ
أزمانـًا طويلهْ
قد عَاشَ يَرْسُمُ كلَّ يَوْمٍ ضَوْءَ قِنديلٍ..
تناثر فِى خميلهْ
ولكلِّ بَيْتٍ كانَ يَرْسُمُ للمَدَى
وطنـًا..وقدُّاسًا..ومئذنة جَميلهْ
هذا القلمْ
أسكنتهُ عَيْنى..
وَهَامَ على ضِفافِ النيل عِشْقـًا
وارْتوى بَيْنَ الرُّبُوعْ
كمْ كان يشْرقُ بين أوْرَاقِى
إذا انـْطفأتْ شُمُوسُ العُمْرِ..
واختنقتْ مع القهْر الشـُّموعْ
لمْ يعْرف الإذلالَ يوْمًا.. والخُضُوعْ
بينَ الفنادِق..والمصَانع..والبُيُوتْ
منْ يشـْترى قلمًا
تطاردُهُ خُيُوط العنكبوتْ؟
منْ يشترى قلمًا حَزينـًا دَامِيًا
رَفضَ التنطعَ والتدنـِّى والسُّكوتْ؟
بَيَن المزادِ أراهُ فى صَمْتٍ..يَمُوتْ
◙ ◙ ◙
ماذا تبيعُ الآن فى هذا المزادْ ؟
مَنْ يشترى نظارَتِى ؟
منـْهَا رأيتُ الكوْنَ أمْجَادًا
تحلقُ فى سَمَاءِ مَدينتِى
ورأيتُ تاجَ الكبريَاءِ..
يزينُ الوطنَ المهيبَ..
ويكتبُ التاريخُ صحْوة أمَّتِى
ورأيتُ بينَ سُطورهَا
وَطنـًا عَنيدًا صَامِدًا
كمْ كانَ يرفعُ فى شُمُوخ هامَتِى
ورَسَمْتُ فوق رُبُوعهَا أسْرَاب طيْرٍ
لا تكفُّ عن الغِناءِ..
ولا تفارقُ شرْفتِى
ألوانـُهَا البَيْضَاءُ كمْ رصَدَتْ
مَفارقَ رحْـلتى..
فيهَا انتصَارٌ..وانشطارٌ
وانكسارٌ منْ سهام أحبتـَى
نظارَتِى ..
ماذ تبقـَّى منْ هُمُوم الرِّحْلةِ ؟
صخبُ المزَادِ.. وأنـْتِ.. والكهّانُ..
والزمنُ الملوَّثُ مِن دِمَاء بَرَاءَتِى
◙ ◙ ◙
مَاذا تبيعُ الآنَ فى هذا المزادْ؟
منْ يشتـَرى ثوْبى القديمْ؟
مَازلتُ اعرفُ أنهُ ثوبٌ قديمْ
هُوَ يُشْبهُ النـِّيلَ القديمْ
ويُشْبهُ الوطنَ القديمْ
ويُشْبُه الحزنَ القديمْ
سيقولُ بعضُ النـَّاس .. باعُوا شاعرًا
يبدُو سَقيمَ الرّوحِ..
فِى جَسَدٍ سَقيمْ
ويقولُ شعْرًا داميًا
وكأنـَّه جُرْحٌ مقيمْ
قدْ كانَ يوْمًا كاللآلِئ فى دُجَى اللــَّيل البَهيمْ
والآنَ فى وَسَط المزادِ..
يطوفُ كالكهْـل العقيمْ
مَازالَ يَمْضِى شَاحبًا
تبْدُو عليهِ ملامِحُ الزَّمَن الدَّمِيمْ
◙ ◙ ◙
يَا سَيِّدى
اتـْرُكْ لنا هذا العلمْ
كلُّ الذى نرجُوهُ..
أنْ يَبقى لنا هذا العَلمْ
اتركْ صلاحَ الدِّين
والسَّيفَ المحنـَّط فوقَ أطلال الهَرَمْ
واتركْ لنا شيْئـًا
يذكرُنا بهذِى الأرْض بَعضَ نخيلهـِا
بَعْضَ الخـُيُول..
ومَا تبقـَّى فى دمَانـَا من هِمَمْ
اتركْ لنا خُوذاتنا الصفراءَ..عل بريقهَا
يَومًا يُضىءُ مقابر الشـُّهدَاءِ..
تنبتُ منْ بقاياهُمْ ذراع ٌ..أو قدَمْ
ويثورُ فى صَمْتِ الرّمَال..
صَهيلُ أوْردةٍ.. وأكفانٍ.. ودمْ
ويُطل ُّمن أعمَاق هذا الليلِ وجْهٌ غاضبٌ
وبكلِّ سَطـْر فى مَلامِحِه ألمْ
سَيَقومُ منْ صمْتِ الترَابِ
ويرفعُ الأيْدِى التى سكنتْ
وَيُمسكُ فى أصَابعهِ قلمْ
وَيَعودُ يكتبُ منْ جَديدٍ
فوْقَ جُدْران ِالهرمْ
(اقرأ وربُّكَ الأكرمُ (3) الذِى علمَ بالقلـَم (4)
علمَ الإنسانَ ما لمْ يَعْـلمْ)
أنتمْ– وَرَبِّ النـَّاس – مِنْ خَيْر الأمَمْ