ذات يوم انطلقت فى آفاق العالم رواية اهتزت لها أركان الثقافة العالمية ، فقد صدرت رواية «د. زيفاجو» لشاعر روسيا الأكبر فى ذلك الوقت يوريس باسترناك .. كان الشاعر قد انتهى من روايته وأرسل نسخة منها إلى صديق له فى إيطاليا ، ولكن الرواية سرعان ما تسربت وترجمت وأصبحت حديث العالم ، فقد كانت إدانة للثورة الروسية ووجد الغرب فيها فرصة تاريخية لكشف مساوئ النظام الشيوعى .. كانت الرواية دفاعا عن قضية الحرية والحياة الكريمة، وهى عمل ملحمى غاية فى العمق والتصوير والإبداع..
ـــ انتقلت «د.زيفاجو» إلى مصر وقام بترجمتها صاحب سلسلة كتابى، المبدع والمترجم الكبير حلمى مراد.. وكانت المفاجأة أن الرواية تصدرتها مقدمة لعميد الأدب العربي د. طه حسين ، وكانت المقدمة دعوة للحرية وإدانة صارخة للاستبداد بكل ألوانه .. قرأت د. زيفاجو وعشت أحداثها وشخصياتها وأماكنها ، وصور الطبيب الشاعر ورحلة العذاب والمعاناة بين الحب والمطاردة.
ــــ ذات يوم كنت أسير فى شارع رمسيس بالقاهرة ووجدت إعلانا أمام سينما رمسيس فيه صورة ضخمة للفنان المصرى عمر الشريف فى بطولة د. زيفاجو الفيلم.. حضرت الفيلم وشاهدت النجم المصرى وهو يؤدى دورا تاريخيا فى ملحمة بديعة إخراجا ونجوما وأحداثا، وتفوق عمر الشريف فى أداء دور الشاعر فى عذاباته ومعاناته وحبه.. بعد أسبوع واحد من عرض الفيلم تم سحبه وتوقف عرضه، لأن رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى كوسيجن جاء فى زيارة للقاهرة وطلب من الرئيس السادات وقف الفيلم..
ـــ طاردنى د. زيفاجو بعد ذلك ، وشاهدته عدة مرات فى بيروت ولندن وبومباى .. وزارنى حلم أن أكتب رواية عن زيفاجو مصر، قصة شاعر مع ثورة ، وما زال الحلم يطاردنى بعد سنوات وإن لم يتحقق أو يكتمل، رغم أننى لم أكتب الرواية وإن عشت تجارب المسرح فى أربع مسرحيات لاقت قبولا واسعا..
ـــ دعانى صديقى الراحل الإعلامى الكبير حمدى قنديل إلى حفل عيد ميلاد زوجته المبدعة نجلاء فتحى، وحين وصلت فوجئت بأن عمر الشريف أول الحاضرين .. كانت المرة الأولى التى نلتقى، وجلسنا معا وكان الحديث عن د.زيفاجو والدور والشاعر الذى قدمه بطريقة مذهلة.. يومها تنقلت معه فى مشاهد الفيلم ما بين الطب والسياسة ومظاهرات الشوارع وصور البطش والاستبداد التى يعانيها الشعب الروسى، ثم كان رحيل زوجته مع والدها إلى باريس وآخر وداع بينهما ، وكانت نظرات عمر الشريف أحد أبطال د.زيفاجو بداية رحلة جديدة وسط ثلوج سيبيريا، وقصة حب عاشها أياما تنتهى عادة بوداع حزين.. وكانت حبيبته لارا تتنقل بحثا عن عمل فى أى مكان، وكان دائما فى رحلة بحث عنها، وكانت مأساة الشاعر حين مات تحت عجلات قطار..
ــــ كان عمر الشريف منبهرا وأنا أحكى له عن دور الشاعر الذى جسده وأصبح من علامات السينما العالمية.. لم يتردد يومها أن يعترف بأنه ندم كثيرا على فراق فاتن حمامة ، وأنه لم يحب أحدا بعدها، وتمنى لو كان أكمل حياته معها زواجا وفنا، وقال إن النجومية الحقيقية أن تبقى نجما فى بلدك، وأن أكذوبة العالمية لا تقوم على أساس .. وأضاف أن د. زيفاجو كان أهم أفلامه وليس فيلم لورنس العرب ، وأنه أنفق كل أمواله فى الفنادق والبريدج والغربة، وأنه لم يحب واحدة من بطلات أفلامه..
ــــ تحدثنا يومها عن لارا بطلة زيفاجو، وهى فى الرواية الصحفية أولجا إيفنسكايا التى عاشت مع باسترناك رحلة عذابه بعد سفر زوجته.. ورغم أنه حصل على جائزة نوبل فإنه رفضها.. وقد تعرض باسترناك لكل ألوان الاضطهاد من السلطة والحزب والكتاب، وقامت السلطة بسجن حبيبته خمس سنوات انتقاما منه، وسجنوها فى سجن النساء السيئات، وكان سجن لارا مصدر عذاب له.. عاش الشاعر مشردا بين ثلوج سيبيريا وموسكو ، وكان يسكن شقة صغيرة فى ضواحى موسكو، واكتشف أن سلطات الأمن وضعت أجهزة تسجيل لتراقب كل شيء عنه حتى علاقته مع لارا أو أولجا.. وكانت أولجا قد أصدرت مذكراتها ونشرتها أشهر الصحف فى إنجلترا تحت عنوان «أيامى مع باسترناك» وما عاناه فى سنوات مرضه حتى رحيله.. لم يكن باسترناك أكبر الشعراء، ولكن قصائده فى الحب منحته شهرة واسعة، وجاءت روايته د.زيفاجو لتضعه فى صفوف أشهر الروائيين فى العالم، بل إنها جعلته مناضلا سياسيا من دعاة الحرية ورفضا للظلم، خاصة أنه رفض جائزة نوبل ولم يتسلمها..
ـــ جمعتنى المصادفة مع عمر الشريف بعد ذلك مع عدد من الأصدقاء، ولكن اللقاء اختلف ، كان عمر قد سقط فى محنة الزهايمر، ولم يعد الشاعر الذى أحببته وتعاطفت معه. وتمنيت لو أننى سرت على خطى باسترناك وكتبت قصة شاعر مع ثورة، ومازال الحلم يطاردنى..
اذكر فى غداء جمع عددا من الأصدقاء على رأسهم عمر الشريف والصديق الفريق أحمد شفيق وزاهى حواس وإبراهيم المعلم ومصطفى الفقى، ارتفعت درجة الصراخ بين عمر الشريف وزاهى حواس، وكأننا فى حلبة مصارعة..
وكان آخر عهدى مع عمر الشريف حين رأيته يمشى على شاطئ النيل أمام فندق المريديان فى أقدم أحياء القاهرة جاردن سيتى، ولم يكن أحد يعرفه..
ــــ كان عمر الشريف يشعرك دائما بأن ما يسمى العالمية لا يعنى له شيئا على الإطلاق ، وأنه كان يتمنى لو عاش فى بلده وحقق شهرته فيها ، وبقيت قصته مع فاتن التى أحبها ولم يعوض حبها رغم ما عاش من قصص الحب.. وقبل ذلك كله كان يتمنى لو بقى فى مصر وعاش فى ظل أسرة منحته الحب والأمن والاستقرار، ولكن العمر سرقه والأيام غيرت مساره .. ورغم ما جمع عمر الشريف من المال والمجد والشهرة، فقد عاد ليعيش فى مصر فى آخر أيامه، ونسِى الأضواء والنساء والنجاح، وتسربت كل الأشياء من بين يديه حتى سنوات العمر، وإن بقى فيه بريق المبدع وثقافة الفنان. وتنقل بين فنادق القاهرة وعاش وحيدًا، وإن بقى بينى وبينه حلم لم يكتمل : أن أكتب يومًا قصة شاعر مع ثورة، فقد بقيت رواية باسترناك «د.زيفاجو» دعوة للحرية..
..ويبقى الشعر
مَنْ يا ترَى يُشْجيهِ صَوْتُ المنـْشدِ
واللـَّحْنُ يخـْبُو فى الضُّـلـُوعِ
وَرَعشْة الأوْتارِ تهْرُبُ منْ يَديِ
ولمنْ أغنـِّي؟
والمزادُ يَدُورُ حَوْلِى..
والمدَى ليْـلٌ سَحِيقٌ..
والعَواصِفُ مَرْقدى
لا تنزَعِجْ يَا سَيِّدِي
الآنَ أعْرضُ فِى المزادِ قصَائِدِي
منْ يشـْتـَرى عَبَقَ الزّمَان البكـْر..
أيَّامَ الصِّبَا
وشَوَاطِئَ الذكرَى..مَعَ الـْعُمْر النـَّدِي؟
مَنْ يَشترى ترْنيمة الزَّمَن الجْمِيِل..
وَسُورة ُ الرَّحْمَن تسْرِي
فى رحَابِ الـْمسْجدِ؟
مَنْ يشْترى حُلـْم الطـُّفـُولة..
لوْعَة الأبِ العَجُوز..
رُفاتَ أجْدَادِى..وَسَاعَة مَولِدِي؟
لم يَبْقَ غيْرُ مَوَاكبِ الذكـْرَى
تـُحَلـِّقُ كالهَواجِس فى شُحوُب الموْقِدِ
وَوَقفـْتَ تنظـُرُ فى المزادِ
وحَوْلكَ الأوطانُ والفرْسانُ
وَالماضِى الذبيحُ على جدَار المعْبَدِ
وَمَضَيْتَ تصْرُخُ..
وَالمَزادُ يدَقُّ أعناقَ الشـُّعُوبٍ..
ويَسْتبيحُ الأمْسَ..
يُجْهضُ كلَّ أَحْلام الغدِ
ولِمنْ تبيعُ الشِّعْر يا مِسْكينُ
وَالأنهارُ حَوْلكَ أجدَبَتْ
والرَّكبُ قد ضَلَّ الطريقَ
مَتـَى يُفيقُ..وَيَهْتدي؟
مَاذا تبيعُ الآنَ يا مسكينُ فى هذا المزادْ ؟
لا شَيْءَ غيرُ قصائِدٍ ثكـْلي
تـُحَدِّقُ بين أطلال الرمَادْ
لا شَيْءَ غيرُ عَناكِبِ الكهَّان تنفـُثُ سُمَّهَا
والأرضُ حَاصَرَهَا الجَرَادْ
خَرَجُوا يبيعُونَ المصَانِعَ..والمزارعَ
وَالمسَاجدَ..والكنائِسَ..وَالعبَادْ
وَكتائبُ الزّمَن القـَبيح
تدُورُ فى صَخَبِ المزادِ
كأنهُمْ كهّانُ عَادْ
مَاتَ الفوارسُ وانتهَى
زمَنُ البَرَاءَةِ..والترفــُّع..والعنادْ
وَغدَوْت تجلـْسُ فوْقَ أطلال السِّنينَ
قدِ اسْتكانَ النـّهْرُ..
وَارْتاحَتْ شواطئهُ..وكبَّـلهَا الفسَادْ
سَيَقـُولُ بعْضُ النـَّاس
إنَّ قصَائِدِى شيْءٌ مُعَادْ
حلم ٌ مُعَادْ
جُرْحٌ مُعَادْ
حُزْنٌ مُعَادْ
مَوْتٌ مُعَادْ
هِيَ بَعْضُ ما تركتْ ليَالى القهْر
فى هَذِى البلادْ
* * *
مَاذا تبيعُ الآنَ يا مسْكينُ فى هذا المزادْ ؟
بَيْنَ الفنادق والمصانِع والمتاحِفِ والمتاجرِ
شيْءٌ جميلٌ أن تضيءَ مزادكمْ أوراقٌ شاعِرْ
فى كلّ بيْتٍ منْ قصائِدِهِ
تغنـَّى الحبُّ..وانسابتْ مشاعرْ
هُوَ لمْ يكنْ يَوْمًا من الأيَّام دجَّالا..
ولمْ يحْمِلْ مباخرْ
هُو لمْ يُمَارسْ لعبة العُهْر المقـَّنع بالعفافِ
ولمْ يلوِّثْ وجههُ دنسُ الصَّغائرْ
هُو لمْ يغيِّرْ لوْنـَه المْنقوشَ
منْ طين الحقـُول
ولمْ يُحَاربْ بالحناجرْ
هُوَ ماءُ هذا النهْر ..
حينَ يجيءُ مندفعًا..وَفى شَمَم يكابرْ
هُوَ منْ شذى هَذى الضّفافِ
وكمْ تعذبَ فى هواهَا قلبُ شاعرْ